الحقيقة المتجلّية.. أولادكم ليسوا لكم

لعلّهم يقظة مفاجئة في النفس في عمق أعماق النفس، حضور ملائكي يملأ الدنيا ضجيجاً وفرحاً، أنفاس كرائحة الريحان لدى اهتزازه، نغم يفاجئ وجدان الأهل على حين غفلة، فيرون الحياة مكتنفة بالألحان منتصبة كبرج من نور بين الأرض والسماء. هكذا حال الأهل عند قدوم أطفالهم مواليد جدداً يقتحمون غمار الحياة، فيفتحون عيونهم على وجوه أهلهم، ويبصرون بأفئدتهم خلاصة وتعاليم ما ستحمله لهم الأيام من أسلوب الأهل وإرشاداتهم وخبراتهم.

هذا هو التصور الحقيقي لفلسفة الحياة، فمن يتزوج فلابد أن ينجب، ومن ينجب فلابد أن يربّي، ولكن من أعطى الوالدين الحقَّ في أن يصهروا تعاليمهم الحياتية وتشدّدهم السلوكي وأن يضعوها في بوتقة أرواح أولادهم؟ هل يجوز للأهل بحكم امتلاكهم لتلك الأجساد الغضّة أن يمتلكوا أرواحهم ويتحكموا بنبضات قلوبهم حتى؟ من أفتى بالقسوة والشدة وفرض نظام الحياة على أولئك الصغار؟ فهل هنالك قوة في العالم تقدر أن تحول الفراشة إلى ببغاء ناطق؟ من قال إن السلطة الأبوية يجب أن تكون كسلطة الأقوياء وصاحبي النفوذ في فرض أسلوب الحياة والأفكار على الضعفاء، وكمّ الأحاسيس والأفواه وقبول الظلم المفروض؟

في كتاب (النبي) يطالعنا جبران خليل جبران، وهو الفيلسوف قبل أن يكون كاتباً، بفكرة تحضّ الأهل على ترك أبنائهم يعيشون حياتهم بالطريقة التي يرغبونها وعدم فرض أسلوب الحياة التي كان يحياها الأهل من قبل، والتخلي عن لباس الحكمة والورع الذي يحيكه الآباء منذ قدوم الأبناء كي يلبسوهم إياه متى كبروا.

يقول جبران على لسان النبي المسيح لدى سؤاله من قبل إحداهن عن الأبناء: (أولادكم ليسوا أولاداً لكم، إنهم أبناء وبنات الحياة المشتاقة إلى نفسها، بكم يأتون إلى العالم ولكن ليس منكم، ومع أنهم يعيشون معكم فهم ليسوا ملكاً لكم)، ويستكمل قوله بأهم عبارة وهي العبارة المحورية التي تقوم عليها فلسفته فيقول: (إنكم تستطيعون أن تمنحوهم محبتكم، ولكنكم لا تقدرون أن تغرسوا فيهم بذور أفكاركم لأن لهم أفكاراً خاصة بهم، وفي طاقتكم أن تصنعوا المساكن لأجسادهم ولكن نفوسهم لا تقطن في مساكنكم)..

الأولاد هم طاقة فكرية هائلة فإن أراد هذا العالم أن يحقق السلام والكمال بكل جوانبه فإن عليه أن يلتفت أولاً إلى تربية الأطفال وتعليمهم في جو من الحرية الفكرية ودون قيود وتعاليم بالية .وعلى الأهل خاصة أن يفطنوا إلى أن زمان أولادهم هو غير زمانهم، وأن ما نشؤوا هم عليه قد يكون من الماضي بالنسبة لمن يواكب العلم والتكنلوجيا والأحداث المستقبلية .

الأولاد أرواح ترغب أن تنعتق من القيود والمعتقدات التي قد يحاصرهم بها بعض الأهالي، فكيف لأب يعيش حقداً موروثاً قديماً أن يفاجئ ابنه الصغير به ويطالبه باستكمال مسيرة الأحقاد والكراهية والبغضاء؟ وكيف لأم أن تبذل جهدها كي تسكب في ابنتها أهواءها المريضة، لتظهر الفتاة بنفسية غير متوازنة ترفض الغير وتحقد على من تميزها الحياة بجمال أو علم أو مال؟ وكيف للمتعصب دينياً أن يحرض أبناءه كي يسلمهم لمخالب الطائفية وما فيها من مشاعر عدائية وأفكار ونوازع متطرفة، كما شهدنا خلال الأزمة السورية؟

لماذا لا ندع الأطفال يعيشون تجربتهم الخاصة، فيحققون كل ما تصبو إليه نفوسهم وطبعاً ضمن حدود المعقول؟ لندع التجربة تغلف حياتهم، فإما أن يستفيدوا وتكون تجربة مثمرة وإما أن ينكفئوا ويستنتجوا أن اندفاعهم في الأمر كان خطأ .هكذا بدأ الغرب منذ عشرات السنين بتطبيق هذا السلوك في حياة الأطفال، فلا يقمعهم ولا يفرض أي أمر عليهم، ويوبَّخ الأهالي وربما يعاقَبون إن اشتكى طفل في المدرسة من سوء معاملة أبويه أو حتى إن رفض أحدهما سماعه.. في الغرب يحرصون على تلك البذور لتنشأ في جو سليم فتصبح في المستقبل غرساً مثمراً.

إن شرارة الحب الأبوي متقدة في كل النفوس وما من شك في هذا. ولكن نريدها شرارة انطلاق نحو قيم الحق والجمال والواجب والإيثار، شرارة إصرار على تمهيد الطريق الصحيح ليصبح أبناؤنا أبناء الحياة لا أبناء التعاسة. شرارة البدء في مشروع هو أغلى مشروع في الحياة، وهو مشروع الطفل وحياته وإزالة كل العقبات كي يخطو في هذه الحياة نحو الطريق السليم القويم..

العدد 1140 - 22/01/2025