حول الأدب السياسيّ
في البداية يجب أن نعترف بأن من المفروض أن يكون للإبداع الأدبي موقفٌ من السياسة، ثمَّ يجب أن نعترف بأنه سيظل إبداعاً نحترمه، سواء كان متوافقاً أو متعارضاً مع السياسة المرحلية التي تقود المجتمع، وليس من المنطق أن نقول للمبدع: ابتعد عن الدين والسياسة في إبداعك الأدبي!
العلاقة هي غالباً ما تكون علاقة صراع وخلاف واختلاف مستمرّ بين الأدب، الذي هو فنُّ الكلمة، والسياسة التي هي فن الإدارة، فالكلمةُ إنْ لم تعجبها الإدارة ستهجوها وترفضها، من هنا كان مولدُ الأدب السياسي.
لم يوجدْ الأدب السياسي إلا ليكون ميزاناً لتصحيح الاعوجاج الذي يظهرُ في السياسة، وتقويمه، وهي تخشى منه أن يشيرَ إلى أخطائها، فتحاول إسكاته بكل طريقة، وإن كان القمع المباشر هو شكلٌ من أشكال إسكاته، فهناك شكل آخر لهذا الإسكات يكون على طريقة (وداوِها بالتي كانت هي الداء)، وهو أنْ تعمل السياسة على صنع (أو تشكيل) جوقة من الأدباء تعيش في بلاطها وعلى موائدها، تكون مهمتها التصفيق لها في كل حالاتها، وتجعل من اعوجاجها قيمة جمالية، وتكون المهمة الأساسية لهذه الجوقة هي محاربة تلك الفئة من الأدباء التي تخالفها في الرأي، وشتمها، وتتهمها بأنها عميلة ومرتبطة مع الخارج، وأنها تُباعُ وتُشرى لمن يدفع أكثر.
ومنذ أن وُجِدَ البلاط السياسي وُجِدَ معه أدباء البلاط الذين يمدحونه ويشتمون المعارضين له.
القافلة تسير والكلابُ تنبحُ، هذا القولُ هو من أهم أشكال الشتائم التي تكالُ من أدباء البلاط، في وصف الأدباء والفنانين الذين يعارضون المواقف السياسية، ربما هم ينسون أو لا يعرفون أن الكلاب التي تنبح هي الكلاب الغريبة عن القافلة، بينما لا تنبح الكلاب التي تكون ضمن القافلة لاعتيادها على السير معها، من هنا يولد انحطاط الأدب كمفهوم ثقافي، وانحطاط الرؤية الأدبية، وانحطاط الذوق العام للأدب، عندما لا نقبل بوجود من يخرج عن القافلة ليعمل على التنبيه إلى أخطائها عندما يراها انزاحت عن الخط الصحيح لسيرها.
أنْ تكونَ روائياً أو قاصَّاً أو شاعراً أو فناناً أو باحثاً أو كاتب مقالات، فهذا ميدانك، سنعترف بأنك مبدعٌ، والإبداع هو موهبة يتميز بها البعض ويصلون إلى مرحلة النجومية في المجتمع، ويبقى إبداعك هذا حقّاً لك لا ينتقصه منك أحد، مهما كان موقفك السياسي، وتبقى مبدعاً على أن لا تنتقصْ أنت أيضاً من قيمة الإبداع لغيرك من المبدعين الذين يخالفونك في الرأي السياسي، والمطلوب منك، حتى تكون مبدعاً فعّالاً، أن لا تستخدم إبداعك في ركوب حصان خشبي من أحصنة دون كيشوت وتكون فارساً وهمياً تحاربُ رفاقك في الإبداع الذين لم تعجبهم المواقف السياسية التي تنطوي أنت تحت جناحها، فعملوا على انتقادها، ولا يحقُّ لك أن تقيِّمَ أحداً من رفاقك المبدعين، لمواقفهم السياسية إن كانوا معك أو ضدك، فللناس أهواؤها وآراؤها وأفكارها ورؤاها، والمبدع صاحب الموقف وصاحب الرأي هو الذي يعترفُ بأنَّ للآخرين أيضاً مواقفهم وآراءهم، فيحترمها وإن خالفت موقفه ورأيه، ولا يتهمها بالعمالة للآخر إن كانت ضد السياسة التي يؤيدها هو.
في كلِّ مرحلة، من الطبيعي أن يوجد أدباء خارج البلاط السياسي، وأدباء داخله، والأديب المبدع هو الذي لا يتناول حجارة البلاط ليرجم بها من هم في خارجه، بل يكون الحوار هو الوسيلة التي يجب أن تستخدم للتقريب بين الطرفين بالجدل المنطقي للوصول إلى الاقتناع بفكرة الآخر، ويظلُّ الإبداع معترفاً به في الأدب والثقافة والفن وفي أي عمل أو مهنة، دون النظر إلى موقع صاحبه داخل البلاط السياسي أو خارجه، يوافقه أم يعارضه، فلا يحق لأحد تشويه إبداع الآخر أو إلغاءه، لابتعاده أو لقربه من البلاط، فالإبداع من الطرفين مهما كانت دوافعه يجب أن يكون إيجابياً لا يحمل مطرقة للهدم، بل يجب أن يحمل معولاً لزراعة الفكر الصحيح الذي ينهض إيجابياً بالبلاط السياسي، وبالتالي ينهض حضارياً بالمجتمع كله.