هل بات التعليم للنخبة فقط؟!

وعد حسون نصر:

في الماضي كان التعليم مقتصراً على النخبة من أبناء الطبقة الحاكمة الأرستقراطية، وكان عامة الشعب عبارة عن فلاحين وصناعيين لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، وغالباً كانوا فقط عبيداً لأصحاب الأراضي والمعامل وأبنائهم. هذا المفهوم يُجسّد فكرة عدم إنارة العقول لتبقى محصورة في البحث عن وسائل الطاعة لأسيادها. اليوم في زماننا هذا، نرى الفكرة ذاتها تولد من جديد، لكن بمفهوم آخر مناسب لهذه المرحلة تحت مُبررات كثيرة، أهمها الأزمة وما خلفته من دمار في مراكز التعليم، وهجرة النخبة من المدرسين، وفقدان البنية التحتية، وخاصة دور الطباعة مع نقص المواد الأولية من أحبار وورق وارتفاع أسعارها، وبالتالي يغيب الكتاب المدرسي، إضافة إلى تعرّض الكثير من المدن والقرى للدمار، ممّا أدى إلى هجرة الكثير من سكانها إلى المناطق الآمنة، وبالتالي تفاقم عدد الطلاب في المدارس حتى بات الضغط داخل الشعبة الواحدة كبيراً بحيث يُسبّب توتراً للمدرّس وللطالب معاً، مما يجعل بعض المدرسين يعزف عن إعطاء درسه في المدارس الرسمية، مُفضّلاً اعطاء البعض من طلابه الدروس الخاصة مقابل أجر مادي، وبالتأكيد لا يستطيع أغلبية الاهالي تدريس أبنائهم عن طريق دروس خاصة، وهنا يغدو التعليم لمن يدفع أجره. كذلك الأمر بالنسبة لمستلزمات المدرسة، وغلاء القرطاسية والملابس والحقائب …الخ.

لا شكّ أن هذا الوضع جعل البعض من الاهالي يستغني عن تعليم أولاده وزجهم بدلاً من ذلك في سوق العمل كي يُخفّف عبء مصروفهم المدرسي. أيضاً فإن التنمّر الذي يحدث بين التلاميذ أنفسهم يجعل البعض منهم لا يرغب البقاء في المدرسة بسبب ما يتلقّاه من تنمّر وسخرية من أقرانه سواء على ثيابه أو حقيبته أو حذائه!

إن هذه الأسباب مجتمعة جعلت العلم يقتصر على النخبة من الناس، والأمر لا يختلف كثيراً عنه في المرحلة الجامعية، فارتفاع معدّلات القبول الجامعي يُسبّب العزوف عن إكمال التعليم، فضلاً عن التعليم في الجامعات الخاصة، وبالتالي إذا اضطرهم الأمر للتسجيل في الجامعات الخاصة، تجدهم مرغمين على العمل في أكثر من مجال من أجل سدِّ نفقات الدراسة، وكذلك من أجل الظهور بالمظهر اللائق الذي يتناسب مع أقرانه في الجامعة كي لا يشعر بالفارق الطبقي أمامهم، حتى في الجامعات العامة لا يختلف الأمر كثيراً عمّا هو في الجامعات الخاصة. وإذا كانت الجامعة في محافظة أخرى سيضطر لتأمين سكن وبالتالي سيتضاعف المصروف بسبب تكاليف الإيجار وتأمين مستلزمات المسكن والطعام وغيرها!

كل ما حولنا يشير أن العلم سوف يغدو للنخبة فقط ولأصحاب النفوذ ممّن يستطيع الدفع، وبالتالي لا مشكلة عند البعض أن يشتري حتى الشهادة ويغيّر اختصاصه مثلما يغيّر ثيابه وسيارته وجواله! وتراه بعد فترة وجيزة قد أصبح من نجوم النخبة وتبوأ مكانة مرموقة، ويبقى أبناء طبقة عامة الشعب منشغلين بالعمل والجري وراء لقمة العيش، والأطفال خارج مقاعد الدراسة عبارة عن صبية يعملون لدى أصحاب الورش الصناعية والتجارية، والشباب من كلا الجنسين عبارة عن موظفين بسطاء بأجور رمزية، وكأننا عدنا لزمن الباشا والرعاة من العامة!

أعيدوا للجيل نور العقول بعد أن أظلمتها الحروب، اعملوا على بناء المدارس بدل دور العبادة والمقاهي، ضاعفوا أجر المعلم كي يعطي من قلبه بعد أن تعطوه حقّه من تعبه، اجعلوا معدّلات القبول تناسب الجميع بلا استثناء، لا تدعوا الفرصة تفوت على راغب العلم، ابنوا الأوطان بعقول نيّرة على يد جيل يعرف قيمة العلم، لا تبنوها على يد مرتزقة اشترت العلم مثلما تشتري قطعة إكسسوار، فمن ناضل من أجل إثبات الذات قادر على تعزيز الذوات وتحقيق النجاحات أكثر من الذي يناضل ليصل إلى تحقيق الذات بشرائها بالنقود.

العدد 1128 - 16/10/2024