الشرق الأوسط وحرب المئة عام ولعلها بدأت فعلاً!!!

د. نهلة الخطيب:

نعيش حقبة جديدة من التغيرات والتحولات الهائلة الناشئة عن ثورة تكنولوجية غيّرت حياتنا بشكل كبير وخاصة تطورات الذكاء الاصطناعي، ودخل العالم مرحلة الجيل الخامس للحروب بأسرارها البعيدة وغموضها، وأصبحت التكنولوجيا ميدان القتال الأول والقوة الأولى، والتي تعد مصدر خطر على الأمن الدولي والإنساني، بل يراها البعض الأشد تهديداً بعد انتشار أسلحة الدمار الشامل، تحولت جبهات المعارك إلى ميادين لاختبار التكنولوجيا والتحكم عن بعد ما يعرف بـ(تسلّح التكنولوجيا)، وباتت تمتلك قدرات عالية على تغيير مسار التطورات الميدانية في مناطق الصراع الساخنة.

تزايد استخدام أسلحة الذكاء الاصطناعي ذاتية التشغيل على نطاق دولي واسع، مع تراجع الضوابط الأخلاقية وانتهاك حقوق الإنسان، أدى إلى تزايد الخسائر البشرية بين المدنيين الذين يكفل لهم القانون الدولي الإنساني الحق في الحماية في حالات الصراعات المسلحة.

إسرائيل استثمرت التكنولوجيا منذ أكثر من ربع قرن، وتعتبر من الدول المتقدمة في برامج الأمن السيبرالي، هذا ما كان واضحاً في الضربة التكنولوجية القوية التي وجهتها لحزب الله من خلال هجماتها على أنظمة الاتصالات لمحاولة إضعاف الحزب، ولكن إسرائيل تواجه أزمة استراتيجية ووجودية، وتفقد اليوم ما أرعبت به المنطقة طيلة العقود الماضية من نظريات تفوق الردع والانتصارات الحاسمة، على الرغم من الانتصارات التكتيكية في تدمير قوة المقاومة في غزة واستهداف قياداتها، وجعل غزة مكاناً غير قابل للحياة، والآن نحن أمام محرقة جديدة تلوح في الأفق، إسرائيل تستبيح لبنان بطريقة إرهابية، لم تعد غزة وحدها مقبرة المدنيين بل أصبحت الضاحية الجنوبية مقبرة ثانية لهم، إذ نفذت إسرائيل مجزرة كبيرة بحق المدنيين راح ضحيتها ما يقارب أربعة آلاف لبناني خلال اليومين الماضيين، قد تكون جزءاً من انتصاراتها التكتيكية، ولكنها لا تعالج القضايا الأساسية التي تواجهها إسرائيل، ومنها ما يعلن من أهداف لإعادة المستوطنين إلى المستعمرات الشمالية وتغيير قواعد الاشتباك.

شروط حزب الله لإيقاف النار مرتبط بوقف النار في غزة، قالها حسن نصر الله (لا لفك الارتباط في غزة، لا لعدم التضامن مع الفلسطينيين)، قرار استراتيجي والحزب يدفع ثمن ربط الجبهة اللبنانية مع جبهة غزة. إسرائيل ترفض حتى الآن وقف إطلاق النار في غزة وإنهاء المأساة فيها، والكل وبضمنه القيادة الأمريكية يدرك أن إنهاء المأساة في غزة سوف يؤدي إلى نزع فتيل الأزمة. إسرائيل هي التي تريد التصعيد وتصر على استمرار العدوان والتوحش في غزة التي راح ضحيتها مئة ألف فلسطيني، والتصعيد في الشمال هو جزء لا يتجزأ من استراتيجية إسرائيل بصرف النظر عن المجازر المرتكبة. أموس هوكشتاين خذله الإسرائيليون حين أبلغوه بأن وقف الحرب في غزة لا يعني وقفه في لبنان قبل تطبيق القرار 1701 وفق الرؤية الإسرائيلية.

إسرائيل تستفز وتستنزف حزب الله وتغتال قياداته الأولى، وتزيد من مستوى عملياتها، وحزب الله يظهر انضباطاً منقطع النظير لضبط النفس، ويتصرف بعقله وليس بعاطفته، هو أمام معضلة استراتيجية فهو يواجه قوة عسكرية وتكنولوجية في غاية الخطورة، لا يريد الانجرار إلى مواجهه مفتوحة، ولا يريد جر لبنان إلى حرب واسعة، ويأخذ بالاعتبار وضع لبنان الداخلي، وإسرائيل أيضاً أمام معضلة استراتيجية، مرهونة بتوترات شؤونها الداخلية، وتحاول الابتعاد عن اجتياح جنوب لبنان لأنها تعلم تماماً أن أي اجتياح بري للجنوب سيؤدي إلى عدم استقرار إسرائيل لعشر سنوات قادمة، ولكن لا شيء مستبعد على إسرائيل.

لا يمكن فصل التصعيد المحتمل عن الانتخابات الرئاسية الأمريكية، فبايدن أكثر تحفظاً في دعم أي عملية واسعة لإسرائيل قد تؤثر على مصالحها في المنطقة خاصة مع التركيز على التجاذب الانتخابي غير المسبوق في تاريخ أمريكا، بالوقت الذي يقدم فيه المرشحان دعماً كبيراً لإرضاء الحركة الصهيونية لضمان الفوز. التنافس الأمريكي وما سوف يؤدي إلى تهدئة، أو مزيد من التصعيد، بناء على طبيعة العلاقة بين الإدارة القادمة وإسرائيل، وهي غالباً لن تخرج عن مسار العلاقة التاريخية منذ تأسيس الحركة الصهيونية.

الوضع في لبنان والمنطقة خارج السيطرة في ظل العمليات التي تقوم بها إسرائيل، نحن أمام موقف خطير، وكل الاحتمالات واردة في الأيام القادمة، دعم أمريكي مستمر لإسرائيل، وحث جميع الأطراف على ضبط النفس حتى عندما تنجح المجموعة العربية في عقد جلسة طارئة في مجلس الأمن، تمخض عنها فأر، لأن إسرائيل لا تبالي بالقواعد والقوانين الدولية ولا بمجلس الأمن، ولا بالعالم، إسرائيل تهتم فقط بأمريكا والرئيس الأمريكي، وحتى الرئيس الأمريكي الآن لم تعد تهتم به لأنه أصبح بطة عرجاء، واللافت أن القيادة الأمريكية بدأت تستاء من تصرفات نتنياهو التصعيدية، كيربي يرى (أن اندلاع حرب بين إسرائيل وحزب الله قد يؤدي إلى نتائج كارثية على أمريكا وإسرائيل، قد تفجران الشرق الأوسط وقد تفجران العالم، وإن استراتيجية نتنياهو سوف تؤدي إلى نتائج عكسية، وأن الدبلوماسية هي المطاف الأخير)، ومع ذلك إسرائيل تصعد، وأمريكا تبدو كأنها شاهد على ما يجري. بالأمس صرحت الخارجية الأمريكية بأنها (تتخوف من التصعيد)، وهي التي تغذي الحرب وتسلح وتحمي وتدعم إسرائيل، فأين هو اللاعب المنخرط بالعملية الدبلوماسية؟!

لا صوت في العالم يعلو على الصوت الأمريكي، كل دبلوماسية هي دبلوماسية طواحين الهواء، أي مهزلة تلك حين يطرح الأمريكيون أنفسهم كوسطاء في غزة ولبنان ووجودهم في الشرق الأوسط مرهون بوجود إسرائيل، ألم يبلغ نتنياهو الأمريكيين (لولانا لما كان لكم موطئ قدم في الشرق الأوسط)، ألم يعلم نتنياهو أن دولته لولا أمريكا لا وجود لها، ولكن ما حدث بعد طوفان الأقصى أفقدهم صوابهم، كيف لم تتمكن إسرائيل بالمساعدات العسكرية الهائلة من تحقيق الأهداف المعلنة للحرب بعد سنة، وقد تمهد لحرب المئة عام، ولعلها بدأت فعلاً، هناك رؤية سلبية لدور أمريكا في هذه الحرب والوقوف الأعمى إلى جانب إسرائيل وتجاهل بقية العالم قد ينقلب إلى نقمة ولن يبقى نعمة كما تتصوره أمريكا، إسرائيل بجنونها العسكري كذلك بإخفاقاتها العسكرية تحولت إلى عبء على المصالح الاستراتيجية في الشرق الأوسط، وبقاء هذه المصالح مرهون بحل القضية الفلسطينية.

كل ذلك يثبت واقع الحال أن إسرائيل أكبر دولة إرهابية في العالم، ومتهمة بجرائم الإبادة الجماعية الموصوفة أمام محكمة العدل الدولية، تمارس القوة ليخضع الشرق الأوسط لإرادتها، ولكن الوضع الحالي لن يستمر، فهناك متغيرات وتباينات كبيرة يشهدها العالم، وما حدث خلال الـ11 شهراً الماضية في غزة ولبنان خاصة على مستوى استهداف المدنيين غيّر الكثير من المفاهيم والانطباعات في كل أنحاء العالم، وغيّر الرأي العام العالمي والمجتمع المدني الذي يندد ويحمّل إسرائيل مسؤولية قتل المدنيين ويعتبرها دولة إرهاب، وقد شهدنا دولاً وإمبراطوريات اعتمدت على مبدأ القوة والقتل، وانتهت إلى مزبلة التاريخ.

العدد 1140 - 22/01/2025