حول قضية قهر الآخر

يونس صالح:

الفكرة المحورية في هذه المقالة تدور حول قضية قهر الآخر، واستئصاله، سواء كان هذا الآخر فرداً أم قبيلة أم شعباً، مرّةً باسم القومية، ومرّةً باسم العولمة، ومرّةً باسم الدين، ومرّةً باسم التحضر والتطور.

وبينما العالم يدين عمليات التطهير العرقي، أي استئصال شعب من الوجود بالقوة، التي جرت وتجري في بقاع مختلفة من الأرض، فإنه في الوقت ذاته يغض البصر عن إبادة الشعوب البدائية ويعتبرها أمراً منطقياً وحتمياً، خاصة إذا كانت عمليات الإبادة هذه تجري تحت راية التطور والتنمية. فالشعوب التي كانت تعيش على الفطرة بدءاً من قبائل الهنود الحمر في الأمريكيتين، إلى جماعات البدو الرحل في بعض مناطق شرق آسيا قد اعتبرها البعض عائقاً للتنمية، ووصف اختفاءها من الوجود بأنه مسألة حتمية، لأن مثل هذه الأقوام الذين جرى ويجري القضاء عليهم، ليس من الممكن توقع بقائهم على قيد الحياة في العالم الحديث، ويصبح هذا، مبرراً لطردهم من أراضيهم وتدمير أسلوب حياتهم. وبينما تجتث الشركات الرأسمالية الغربية عموماً، والأمريكية خاصة، بوحشيّةٍ، الأشجار والغابات، تتولى البلدوزرات الحكومية إزالة بيئاتهم الطبيعية ويجري إسكاتهم قسراً، وتجريدهم من حريتهم ومن علاقتهم المباشرة مع الطبيعة التي احتضنتهم واحتضنت آباءهم وأجدادهم منذ آلاف السنين.

إننا هنا لا نتحدث عن بضعة آلاف من البشر يعيشون في زاوية منسية عن الأرض، لكننا نتحدث عن أكثر من 300 مليون إنسان لايزالون يحتفظون بانتمائهم كأعضاء في حضارة بدائية تضرب بجذورها في أعماق التاريخ واللغة، وترتبط بالخرافات والأساطير وذكريات أماكن بعينها، ولا يوجد معيار لرصد هذه الأزمة أفضل من معيار اندثار اللغات. فعلى مدى التاريخ بأكمله كان يوجد نحو عشرة آلاف لغة منطوقة، بينما لا يوجد اليوم سوى ستة آلاف لغة مستعملة، الكثير منها لا يجري تدريسه للأطفال، ويتعرض لموت فعليّ، حتى أن اللغات التي يتحدث فيها أكثر من مليون شخص لا يتجاوز عددها الآن 300 لغة فقط، ويتوقع المراقبون أن يندثر نصف اللغات المنطوقة الآن خلال المئة عام المقبلة.

واللغة هنا ليست منظومة من المفردات والقواعد النحوية، لكنها تمثل إشعاع الروح الإنسانية، فمن خلالها ينفذ جوهر الحضارة إلى العالم المادي.. وكما يقول بعض علماء الاجتماع: (إن للّغة قداسةَ الكائن الحي وغموضه)، فهل يكون الحزن والحداد على انقراض اللغات أقل من الحزن على انقراض الجنس البشري؟!

إن بعض خبراء علم الاجتماع يقولون أيضاً: (إن اندثار لغة يشبه إلقاء قنبلة على مدينة)، فباختفاء اللغات تموت الثقافات ويصبح جوهر العالم أقل بهجة، وتجري التضحية بالمعارف الأولية والمنجزات الفكرية التي حققتها البشرية على مدى آلاف السنين.

إن الإنسان إذا تجرّد من إنسانيته، يصبح من أكثر الوحوش ضراوةً. إن التوحش الرأسمالي يجرّد الإنسان من إنسانيّته، وعلينا أن نعي ذلك.

العدد 1140 - 22/01/2025