قبل ربع قرن بالتمام والكمال كان يسكن في العاصمة.

العاصمة التي لا تنام حيث الحركة التجارية وحركة وسائل النقل بمختلف الأنواع والأشكال.

يقصد أحياناً الحديقة العامة يجد في ظلال أشجار التوت ملاذاً آمناً له من حرارة الشمس أحياناً ومن العيون الباحثة عن أي قصة أو خبر.

وأحياناً كان يمشي وقت الغروب في الشوارع العتيقة حيث المشاهد التي قد تترك في ذاكرته ووجدانه لقطة معينة قد تكون عنواناً لقصة وأحياناً قصيدة.

وفي كثير من الأحيان كان لا يغادر غرفته المشلوحة على الكتف الشرقي للعاصمة، يجلس لساعات طويلة وهو يفكر في العديد من المحطات التي عبرها بعد أن جاءت به الظروف إلى العاصمة.

الشيء اللافت أنها كانت ترافقه في كل تحركاته وزياراته ولم يكن يستطيع أن يفارقها ليوم واحد.

كانت تسيطر عليه بشكل جنوني حتى إن العديد من أصدقائه، على قلّتهم، قد لاحظوا ذلك، ومنهم من نصحه بتخفيف الاهتمام بها لكنه كان يرفض محاولاتهم رفضاً قاطعاً، وأكثر من ذلك كان يحاول أن يحدثهم عنها وكيف أنها استطاعت أن تخفف عنه لواعج الغربة وفوضى المدينة وازدحامها، ما جعله يتعلق بها حدّ الجنون.

عندما رنّ الهاتف في غرفته وقف لجزء من الثانية قبل أن يجيب على المكالمة.

في حقيقة الأمر كان قبيل أيام قليلة قد تعرّض لوعكة صحية وطلب له الطبيب المعالج مجموعة من التحاليل والصور كانت معظمها سليمة.

قال له الطبيب إنه لا داعي للقلق، فالتحاليل الطبية سليمة باستثناء صورة الأشعة، ففيها بعض الارتشاحات، ولكن بالرغم من كل هذا فإن ما يتعرض له لا يستدعي القلق أو الخوف.

وقف في منتصف الغرفة كانت معه ككل مرة.. ابتسم بسخرية وهو ينظر إليها بكل ما في قلب العاشق من حب قربها منه أكثر.

كانت رائحتها كفيلة بأن تخرجه من حالة الكآبة والملل.

ابتعد عنها وجلس على النافذة يتأمل سقوط المطر والناس المسرعين في كل اتجاه هرباً من البلل.

قرّر أن يخرج من دونها ليمشي في الشوارع المتخمة ببرك المياه. تردد قليلاً.. خاف أن يحتاجها لكن رغبته في السير وحيداً تفوقت على رغبته في أن ترافقه.

انسلّ من الباب كريح وانحدر عبر الطريق الموحل حتى وصل إلى الشارع الرئيسي.

توقف لثوانٍ قليلة بعد أن حاول إقناع نفسه بأن ترافقه، لكنه عاد وقرّر الخروج من دونها.

يومذاك مشى حتى بعيد منتصف الليل بقليل، فكّر في أشياء عديدة لكنها لم تدغدغ ذاكرته، فابتسم كمن يقول في سرّه: (الظاهر بيكفّي).

اليوم، وبعد ربع قرن، ها هو ذا يعود إليها، بكل الحنين وبكل الحب وبكل شراهة المدخّنين.

رمضان إبراهيم

العدد 1140 - 22/01/2025