وطن بلا شعب
د. أحمد ديركي:
في الصغر يكون سُلّم الأولويات غير واضح المعالم، وما هو واضح فيه ينتمي إلى عالم الطفولة. وهو عالم يختلف بأمور كثيرة عن عالم البالغين، وإن تشابه معه في بعض النقاط، كما يتشابه عالم البالغين في بعض النقاط مع عالم الطفولة.
في الطفولة تتوافق الأولوية مع أحلام الطفولة، ومن دون تقدير لمجريات الأحداث، يعمل الطفل على تحقيق هذه الأولوية، فيأتي عالم البالغين ليضعوا الحدود والقيود لتحقيق الأولوية أو تحقيق جزء منها أو عدم تحقيقها.
فيكتسب الأطفال عبر مراحلهم العمرية ما يتعلمونه من عالم البالغين. فالتعلم اكتساب لا هبة، مثله مثل أمور أخرى كثيرة. ما يهمنا هنا مسألة تعلم العيش ضمن مجتمع ينتمي إليه الطفل ليعيد إنتاجه في الكبر. إعادة الإنتاج لا تكون مطابقة بل إعادة مشابهة لعوامل متعددة. ومع تغيّر الأجيال تتغير أحوال المجتمع وتُجمع التراكمات التغيرية مع الأجيال.
من ضمن هذه الأمور المكتسبة فكرة العيش في بقعة أرض محددة تعرف باسم (الوطن). ففي هذه البقعة الجغرافية المسماة وطن، تعيش مجموعة من البشري شبه متجانسة على أكثر من صعيد، من السمات البيولوجية وصولاً إلى اللغة والتاريخ والعادات والتقاليد المشتركة وسبل إنتاج وسائل العيش و… وعوامل متشابهة أخرى كثيرة. جميع هذه العوامل تعمل على إقامة علاقات اجتماعية متوافقة مع كل هذه البنية المعقدة. فيأتي النظام السياسي ليتناغم مع هذه العلاقات ويعمل على تطويرها مع تطور الأجيال وما تحمله هذا الأجيال من تغيرات تعمل على تحقيقها لأنها من ضمن سلم أولوياتها.
سلّم الأولويات المتغير من الطفولة إلى الكبر، يصبح في عالم الكبار سلّماً يعتمد بشكل كبير على الواقع الاقتصادي الذي يعيشه الفرد ضمن هذه البقعة الجغرافية التي تعرف باسم الوطن. فالتعلّم هدفه الحصول على وظيفة عند التخرج من الجامعة. والهدف من الوظيفة الحصول على دخل. والهدف من الدخل تحقيق الحد الأدنى من سلم أولويات الكبار. ومن أولويات الكبار الاستقلال المادي للاعتناء بالأهل، والزواج والإنجاب والعيش بنوع من الرفاهية، ولو بحدها الأدنى، مثلاً تناول وجبة مع العائلة في مطعم ولو مرّة واحدة شهرياً.
يعتمد تحقيق هذا على النظام السياسي القائم في هذه البقعة الجغرافية التي تُعرف باسم وطن. طبعاً النظام السياسي هو المسؤول الأول عن تحقيق هذه الأهداف جزئياً، فهو غير مسؤول عن تحقيق الأهداف الخيالية، بل مسؤول مسؤوليةً كلّية عن تحقيق الأهداف الواقعية.
من خلال تحقيق هذه الأهداف تحقق العلاقة ما بين الشعب المقيم في هذه البقعة الجغرافية والنظام السياسي وتبنى الأوطان ومفاهيم المواطنة.
هذا عرض بشكل مبسط للأمور. نظام سياسي يعمل على تحقيق سلم أولويات شعبه قدر المستطاع من خلال الدراسات العلمية للواقع داخل البلد وخارجها والأخذ بنتائج هذه الدراسات العلمية الحرة، لا الموجهة أو المقيدة بنتائج مسبقة مفروضة، لتحقيق أكبر قدرٍ من التناغم بينه وبين شعبه، ولسدّ كلّ الثغرات التي يمكن أن يستغلها الخارج لزعزعة استقراره.
توصيف يبدو أنه مثالي ينتمي إلى عالم الخيال وكاننا نتكلم عن عالم المدينة الفاضلة. إنه ليس خيالاً بل هو واقع، ولهذا نعيش في بقعة جغرافية مبهمة المعالم. فالأنظمة السياسية في عالمنا العربي بنَتْ أوطاناً ولم تبنِ لا شعباً ولا مواطناً!
مثال توضيحي، ويرجى ممن يعترض على هذا أن يتقدم ويعرض وجهة نظره. دخل الفرد في دولة عربية لا يتعدى الـ60 دولاراً شهرياً. التسعير بالدولار لأنه السلع في العالم العربي مسعّرة بالدولار حتى لو كان التعامل به ممنوعاً في كثير من البلدان العربية، فمع ارتفاع سعر الدولار ترتفع أسعار السلع ولا ترتفع الأجور! وتكاليف العيش في هذا الوطن تتعدّى 200 دولار شهرياً، والمقصود هنا بتكاليف العيش: تكاليف البقاء على قيد الحياة! فهذا الأجر لا يكفي الفرد ثمن طعام لمدة شهر، فكيف إن كان هذا الفرد متزوجاً وعنده طفل؟ هنا الكارثة.
التعليم الرسمي حدّث ولا حرج عن الانحطاط التعليمي، والمدارس الخاصة، وأصحابها من النافذين بالنظام السياسي أو من المقربين له، مستعدّون لاستقبال الطلاب ممّن يستطيعون أن يسدّدوا الأقساط. القطاع الصحي مثل القطاع التعليمي: انتظر دور موتك أو انتقل إلى ستشفى خاص وادفع التكاليف. قطاع النقل الرسمي مثل القطاع الصحي: انتظر باص النقل الداخلي (الأوتوبيس) إن وجدت فيه مكاناً أو استأجر تكسي.
كيف لي أن أستقل تكسي ما دام دخلي الشهري لا يكفي ثمن طعامٍ لي وحدي. الخدمات العامة مثلها مثل قطاع النقل العام. الحريات العامة مثلها مثل الخدمات العامة. مراكز الدراسات مثلها مثل الحريات العامة… كل هذه المشكلات على هذا الشعب المقيم في هذه البقعة الجغرافية أن يحلها بنفسه وليست مشكلة النظام السياسي، لأنه منهمك بالأمن وتحرير الاقتصاد بالمفهوم الليبرالي!
لذا هذه الأنظمة تبني أوطاناً بلا مواطنين. لأن الهم الأساسي لهذا الشعب المقيم في هذه البقعة الجغرافية تأمين سبل بقائه على قيد الحياة، فتصبح كل السبل ممكنة! في خضم الصراع للبقاء والعمل على الهجرة من هذه البقعة الجغرافية تصبح القضية الفلسطينية خارج الاهتمام، ولو أنها غير منسية.
فهل سوف نصل فعلاً إلى أوطان عربية فارغة من أهلها إن فتحت السفارات الأجنبية أبوابها للسفر إلى بلدانها وبخاصة لمن هم بعمر الشباب؟