فرنسا وقطر.. ولقاء باريس

د. نهلة الخطيب:

أزاحت الولايات المتحدة الأمريكية، والدول الغربية عموماً وفرنسا بالأخص، القناع عن سياستها المنحازة لإسرائيل سواء بالدعم العسكري، واللوجستي غير المتناهي، في حربها الطاحنة ضد المدنيين في غزة، بل وكانت وراء افتعال التوترات في المنطقة العربية لتبقى رهينة الصراعات العبثية، للاستئثار بالثروات النفطية، وللحيلولة دون نشوء قوة تهدد إسرائيل، ودمج إسرائيل في (شرق أوسط جديد)، والهيمنة عليه اقتصادياً وأمنياً لخدمة المصالح الاستراتيجية الأمريكية والغربية.

كانت للحرب في غزة أهداف استراتيجية اقتصادية، مرتبطة بتمرير مشروع الممر الاقتصادي، عبر إفراغ غزة من سكانها، باعتبار أن المقاومة الفلسطينية أصبحت عائقاً أمام هذا الممر، فكان أهم المتطلبات الأمنية لتنفيذ هذا الطريق هو القضاء على المقاومة، فالممر يسير في مسار ضيق بين الضفة وقطاع غزة على بعد 25 كم، إضافة إلى حقول الغاز مارين1، ومارين2، وحقل أور، التي تقع في المياه الإقليمية الفلسطينية باحتياطي يتجاوز1,5 تريليون قدم مكعب، وهذا ما أفقد الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا صوابها بعد الصمود الأسطوري لغزة، إذ إنه أكبر ضربة للمشروع الذي يُخطط له على مدى قرن من الزمن.

حالياً القضية الأكثر حسماً للجميع هي وقف إطلاق النار ثم إنهاء الحرب، لأسباب عدة منها ما يتعلق بالاستحقاق الانتخابي، وغير ذلك، فضلاً عن أن طول أمد الحرب، قد يشعل صراعاً أوسع، يتعارض مع المصالح الأمريكية والغربية، فالخطر يداهم الكل، وبوابته غزة، وسقوط غزة، هو مقدمة لما هو أسوأ، ستكشف عنه الأيام والسنوات القادمة. دومنيك دو فيلبان، رئيس الحكومة الفرنسية السابق، تحدث عن الضياع الأمريكي في الشرق الأوسط، بل وفي العالم، وكأنها على وشك إضاعة الشرق الأوسط، بل والعالم.

لاحظنا مواقف الرئيس الفرنسي من عملية طوفان الأقصى، ومن المجازر التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني التي أعقبت ذلك، تشدد وتراجع وكلام مزدوج، وماذا لو تساءلنا عن سبب كون ماكرون إسرائيلياً، أكثر من الإسرائيليين، وأمريكياً، أكثر من الأمريكيين؟! وهو المعترض على السياسة الأمريكية اتجاه أوربا، والقائل إن حلف الأطلسي مات بالسكتة الدماغية، داعياً إلى إنشاء جيش أوربي مستقل، حتى إذا ما اندلعت حرب أوكرانيا، وحرب غزة، نراه تجاوز البريطانيين بدور الظل للأمريكيين، وبدور المنقذ في الشرق الأوسط، خوفاً من أن تنفلت الأمور من أيديهم. فرنسا تسير على خط موازٍ لأمريكا، ولكن الموقف الفرنسي مستضعف، ورغم أن فرنسا من الخمس الدائمين في مجلس الأمن، وصوتت لصالح القرارات البرازيلي والقطري، بشأن وقف إطلاق النار، لكنها عاجزة عن الضغط على أمريكا، لكيلا تستخدم الفيتو ضد أي قرار لوقف إطلاق النار.

فرنسا تسعى إلى قيادة الموقف الأوربي، ليكون لها مكان في المشهد الدبلوماسي الإقليمي، وأن يكون لها طرف ما في التهدئة، على الرغم من نفوذها المحدود على أرض الواقع، فخرج ماكرون لنا بلقاء باريس، أو ورقة باريس، إطارها (مسودة أمريكية)، بمشاركة رؤساء الأجهزة الأمنية الرباعي، الأمريكي والإسرائيلي والمصري والقطري، بشأن التهدئة في غزة ووقف إطلاق النار وتبادل الأسرى. لا يبدو أن هناك جدّية في إنهاء كوارث الحرب، وإنما اختزال المفاوضات بالرهائن الإسرائيليين، وهذا ما أشار إليه ماكرون (إن إطلاق سراح الرهائن أولوية مطلقة بالنسبة لباريس). السيناتور جيلبير روجيه يستبعد أن تكون مسألة حل الدولتين، داخل الغرف المغلقة في الأليزيه، على جدول الأعمال.

مهما كانت نتائج هذه المفاوضات، في إطارها الإقليمي السياسي، فإنها لا تتعدى الاتفاق على الصعيد الإنساني، وإدخال المساعدات لشعب يتضور جوعاً، لأن القرار الأساسي يبقى لإسرائيل وقد كرر ذلك نتنياهو، (أياً تكون الاتصالات فالحرب سوف تستمر)، وأمريكا غير مستعدة لمواجهة إسرائيل، فالأمن الاستراتيجي لإسرائيل فوق كل اعتبار، فضلاً عن قرب الانتخابات الرئاسية.

عندما يعجز العرب عن القيام بواجبهم تجاه غزة وأهلها، فإننا سنشاهد أفلاماً تعد سيناريوهاتها في الغرف المظلمة للتضامن مع إسرائيل، وجل اهتمامهم (أمام الإبادة الجماعية والتجويع التي يمارسها الكيان الإسرائيلي أمام أنظار العالم وبصمت عربي، وربما بموافقة بعض الأنظمة العربية التي هي ذاتها فرضت الحصار على غزة بعيداً عن المبررات)، هو كيفية إيصال المساعدات جواً، وإنزال (وجبات ساخنة جداً)!! ما يعني مزيداً من الذل وهدر الكرامة، رغم توافرها أطناناً على معبر رفح، وكأن مشكلة الشعب الفلسطيني هي الجوع، وليس عدوّاً سرق أحلامهم، وأرضهم. تاجرتم في القضية منذ النكبة، واليوم تتاجرون بدماء الأطفال وجوعهم. وتستخدمون القضية الفلسطينية ورقة تفاوضية لإحلال السلام الموهوم، الذي لا يمكن لمنطق الاحتلال وبنيته المتسلطة أن تقبلا به، فمجزرة شارع الرشيد في غزة، بإطلاق القنابل على من احتشدوا للحصول على المساعدات، تؤكد ما هو ماضية به إسرائيل.

قطر التي لا يتخطى عمرها السياسي  ككيان مستقل 46 عاماً، غالبية سكانها من أصول هندية وبنغالية وباكستانية، شهدت قائمة من المؤامرات والانقلابات، حتى وصل تميم بن حمد بانقلاب على أبيه، فمن السهل عليه ارتكاب أي خيانة، قطر تتصدر المشهد التفاوضي تحت شعارات تستفيد من القضية الفلسطينية ولا تفيدها، وتدخل في التفاصيل الفلسطينية واللعب بأوراقها إلى جانب استهدافها بشكل متواصل وتعقيد مساراتها، مزايدات وصفقات واستثمارات تفوق ال10 مليارات يورو، تكللت بزيارة تميم بن حمد إلى باريس، باريس ترى في الزيارة حدث سياسي واقتصادي من الطراز الرفيع، تأتي في اطار إقليمي مرتبط بالدرجة الأولى بما يجري في غزة، والدور المحوري الذي تلعبه قطر بين إيران وحماس وإسرائيل، يعززه استقبال أمير قطر لإسماعيل هنية قبل سفره إلى فرنسا، والوفود الإسرائيلية التي تستقبلها قطر لتفاوض خالد مشعل، فهذا يعني أن لقاء باريس بالملحقات السرية، قد أنهى صفقة توزيع حصص الغاز المقابل لشواطئ غزة، بدلاً من قوائم الأسرى التي لا تحتاج إلى شلالات دم لإنجازها، والسؤال لقيادات حماس المقيمين في قطر: هل ما نتج عن حرب غزة يعادل الخسائر البشرية والمادية ؟!! انتظروا ما هو أشدّ!

العدد 1107 - 22/5/2024