العلاقات الأمريكية الصينية.. ماهي الصفقة؟ وما هو الثمن؟

د. نهلة الخطيب:

بالنظر إلى توزيع القوى في العالم، نرى الصين هي القوة البارزة في آسيا، وتحتل مكانة مركزية في النظام الدولي، فهي تعتبر أكبر قوة تجارية وسكانية وعسكرية واقتصادية، وهي أخطر تحدٍّ طويل الأمد يواجه النظام الدولي، ولا تسعى للتغيير الجذري له نتيجة لعلاقتها الاقتصادية بأمريكا والغرب والاعتمادية المتبادلة بينهم والصين تخشى المخاطرة بها، وإنما تسعى إلى إعادة تشكيله لتقف على قدم المساواة مع الولايات المتحدة الأمريكية، طرح بكين نفسها كبديل لواشنطن ليس وليد اليوم، ولكنها مرحلة قادمة لا رجعة فيها تتوافق مع تحركات صينية متسارعة، إذ حدّثت جيشها بسرعة عازمة على أن تصبح قوة قتالية من الدرجة الأولى وذات امتداد عالمي، وستكون المنافس الأكبر لأمريكا بما تشكله من تحالفات عالمية وتكتلات اقليمية وإقامة علاقات مع دول الجوار، مما جعل أمريكا تفرض على الصين ضغوطاً بحقوق الإنسان وملف تايوان والتبت ومحاولاتها لقطع إمدادات الطاقة ومناطق نفوذها لوقف نموها الاقتصادي.

وفي ظروف قد لا تكون مثالية وقد تكون مناسبة لإذابة الجليد بين قوتين عالميتين لهما ثقل في موازين القوى العالمية، عقد لقاء بين الرئيسين الأمريكي جو بايدن والصيني شي جي بينغ في إطار قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي (إبيك) في سان فرانسيسكو، واكتسب اللقاء أهمية كبرى من سخونة الملفات التي فرضت نفسها على أجندة اللقاء وسط حالة التصعيد الكبيرة في الصراع العربي الإسرائيلي والحرب الدائرة في قطاع غزة ملف محتمل للمناقشة، خاصة أن مواقف العضوين الدائمين في مجلس الأمن الصين والولايات المتحدة الأمريكية كانتا على طرفي نقيض في كل مرة، إضافة إلى الملف النووي الايراني والحرب الروسية الأوكرانية. عام على أخر لقاء جمعهما في قمة العشرين في جزيرة بالي بإندونيسيا في تشرين الثاني عام 2022 تخللها تصاعد التوترات في العلاقات الأمريكية الصينية توترات لها خلفيات اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية، وخاصة بعد إسقاط المنطاد الصيني بتهمة التجسس  وسط تصاعد التوتر مع جزيرة تايوان بعد زيارة رئيستها لواشنطن، التي أثارت بكين، والتي تقول إن الجزيرة جزء من أراضيها وهي (القضية الأكبر والأخطر في العلاقات الأمريكية الصينية) حسب شي جي بينغ، سفن حربية أمريكية تحمل رؤوساً نووية ومناورات صينية عسكرية استفزازية تصنف الأكثر جدية في محيط تايوان.

نظرة الطرفين إلى معظم أزمات العالم مختلفة تماماً، فالصين لا تريد أن تكون القطب الأوحد، بل تريد الشراكة وخصوصاً في مناطق التوترات في الشرق الأوسط وأوربا وآسيا الوسطى وإفريقيا، بينما الولايات المتحدة الأمريكية تريد أن تثبت قدرتها على القيادة المطلقة على العالم والسيطرة على منطقة المحيط الهادي واستمرارها لعب دور في الحرب الروسية الأوكرانية والصراع في الشرق الأوسط، فالتناقضات الكبيرة بين البلدين لا يمكن تجاوزها بسهولة في ظل تضارب الأجندات، ومن الواضح في المرحلة الحالية التقاطع في المصالح بين اللاعبين الأساسيين أكثر مما كان في السابق وتفوق خلافاتهما بكثير، وبالتالي خسارة أي طرف تتبعه خسارة للآخر، وانطلاقاً منها ستكون هناك خطوط حمراء متفق عليها لا يجوز تجاوزها في قواعد اللعبة بين الطرفين وفي العلاقات بينهم وابقاء خطوط الاتصال مفتوحة بشكل مباشر وفوري بين الزعيمين، لأن العلاقات بين البلدين هي أساس الاستقرار الدولي وضبط ومنع الأزمات الحالية من الانزلاق لحرب عالمية قد يستخدم فيها السلاح النووي، وهذا ما أشار إليه الرئيس الصيني عندما قال إنهما (يتحملان مسؤولية كبيرة أمام العالم والتاريخ).

في الحرب الروسية الأوكرانية كانت الصين مع الموقف الدولي باحترام سيادة الدول ووحدة أراضيها وعدم التدخل في شؤونها، لكنها تميل بشكل أو بآخر لروسيا، وتتفق معها بانتقاد السياسات والهيمنة الأمريكية وتعمل معها ومع كوريا الشمالية وإيران لكسر الأحادية القطبية، وهي تراقب عن كثب ما يحدث مع روسيا سواء طريقة تعاملها مع العقوبات الغربية الاقتصادية وردة فعل الدول الغربية والأمريكية حيال الحرب في أوكرانيا، لأنها قد تواجهه السيناريو نفسه في حال أقدمت على تدخل عسكري في تايوان، وخاصة أن الانتخابات التايوانية على الأبواب وقد تزيد التوترات تصعيداً، وهي لا تريد أن تخاطر بعلاقاتها الاقتصادية مع الغرب وهي تفوق علاقاتها الاقتصادية مع روسيا، التي تربطها بها علاقات تتجاوز البعد الاقتصادي علاقة شراكة استراتيجية لا يخفيها الطرفان، ولكنها لم تصل إلى مستوى حلف عسكري، لكننا أمام حالة من تقاسم الأدوار في الكثير من المناطق في العالم وخصوصاً في الفضاء السوفييتي السابق آسيا الوسطى، بحيث تضمن الصين مصالحها الاقتصادية فيها ووجودها ضمن مشروع الحزام والطريق، وروسيا تضمن مصالحها الأمنية والعسكرية، لذلك نجد روسيا معنية أكثر من غيرها بهذه المحادثات وما سيتبع من ذلك من نتائج مرتبطة بشكل أساسي بالأحداث التي يشهدها العالم اليوم.

تزايد الضغوط الدولية على الصين الشريك المقرب من إيران وروسيا لحملها على تخفيض التوتر في الأزمات الدولية الكبيرة والانخراط في مساعي السلام في إطار النزاع الروسي الأوكراني والحرب الدائرة في قطاع غزة، مع تحذير إيران بقيام بأعمال استفزازية وتوسيع رقعة الحرب، الحرب في غزة ستختبر كيفية إدارة الصين الاقتصادية والسياسية وسط التوترات الجيوسياسية المتصاعدة في منطقة الشرق الأوسط والمقايضة عليها لتخفيف القيود التي تمارسها واشنطن عليها، وفرض نفسها كقوة عظمى بديلاً عن أمريكا بعد أن تضررت صورتها أمام العالم بسبب موقفها المنحاز جداً لإسرائيل، مع حرص الصين على موقف الحياد، حياد أزعج اسرائيل ولكنه حياد مؤيد لفلسطين كما موقفها من الحرب الروسية الأوكرانية، ربما لإظهار صورتها لاعباً عالمياً محايداً ومسؤولاً لتحقيق مكاسب جيوسياسية وتعميق العلاقات مع الشرق الأوسط باعتباره مصدر مهم للطاقة وممر لمشروع الحزام والطريق الضخم لتوسيع النفوذ الصيني وربطها بجميع أنحاء العالم من خلال طرق وموانئ بحرية وسكك حديدية على غرار الممر الاقتصادي الذي كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعمل على تنفيذه مع حلفائها الإقليميين والدوليين والذي توقف بسبب الحرب على غزة.

تسارع التحولات الجيوستراتيجية يعكس ويعزز تحولاً عميقاً وهو صعود نظام محوره الصين وليس خاف على أحد التغييرات التي أصابت النظام الدولي، وقد تكون الصين غير راغبة في الاستفراد بقيادة العالم، بل المشاركة بنظام متعدد الأقطاب تكون أحد اللاعبين الدوليين ولكن ليس بمواجهة الولايات المتحدة الأمريكية، وآخر ما يرغب به بايدن هو إشعال توتر عالمي جديد يتعلق بالصين، بعد غرقه بوحل الحرب في أوكرانيا والحرب في غزة، في ظل منافسته على إعادة انتخابه العام المقبل.

العدد 1105 - 01/5/2024