الروائية الحموية منهل السراج تكتب (على صدري)

فادي إلياس نصّار:

نجلا، بطلة الرواية، التي يصادف عيد ميلادها في شهر تموز، كانت تعاني من عقدة ضخامة الصدر، التي تتميز بها النساء الحمويات في غالبيتهن، ويعني هذا، على حد تعبير جدتي، أنهن مرضعات وأمهات عظيمات أنجبن رجالاً بكل ما تعنيه الكلمة.

تصوّر الروائية منهل السراج بطلتها نجلا بأنها قصيرة القامة ضخمة الصدر، الأمر الذي يسبب لها عقدة الخوف من الإفصاح عن مكنونات قلبها وعقلها، إضافة إلى الخلل في العلاقة الأسرية مع أمها الأرملة، وأختها التي تشبه أمها، فهي طويلة وممشوقة القدّ. إلا أن نجلا مهتمة جداً بالتراث وبمسألة إعادة مدينتها حماة إلى ما كانت عليه. على امتداد الرواية نجد وصفاً دقيقاً لأحياء حماة يذكّرني بأسلوب المبدع الكولومبي غارثيا ماركيز، إذ تتحدث عن الروتين في الدوائر الحكومية وخاصة في مجال عملها وعلاقة نجلا بمديرها، وتتعمّق أكثر في تحليلها لخيانة ثائر لنجلا ومدى تاثيرها على حياة الفتاة، وكلمة الخيانة التي تبحث عن معناها في قواميس علم الأخلاق الصادرة عن دار التقدم بموسكو وغيرها فلا تجد لها أي تفسير.

ما يلفت الانتباه في رواية منهل السراج هذه، بخلاف الروايات الأخرى، هي أنها تسبر عمق العلاقات الاجتماعية بين الناس في مدينة حماة، وتصرّ على أن هناك علاقة حميمة بين مسيحيي حماة ومسلميها، وذلك من خلال علاقة نجلا المسلمة، بنت العائلة المحافظة، التي جنى أبوها المال من تهريب السلاح، بالسيدة لينا الحموية المسيحية التي تعيش في أمريكا وتأتي لقضاء عطلة الصيف في البلد مع أبنائها، والتي لها أختان، واحدة يهودية والأخرى مسلمة.

تتحدث منهل عن ظاهرة منتشرة جداً في الأوساط الحموية المتشدّدة، وخاصة لدى العائلات الكبيرة التي تهمّها سمعتها بشكل خطير جداً، ألا وهي ظاهرة الخوف الرهيب لدى الإناث من أن يبقين عازبات، أو أن يقمن علاقات حب دون أن تكون حميمة أو على الأقل علاقات صداقة.

يستطيع القارئ اكتشاف ما بين السطور من سحر العشق والحنين ممزوجين بالفخر والألم، في الوقت ذاته، إذ استدرجت منهل كل الذكريات العالقة في قلبها وليس في مخّها وحده عن مدينة تعشقها، تعشق الكيلانية وفوقها الزنبقي، تعشق الحاضر وسوق السجرة وحديقة أم الحسن والقلعة، فشارع الثامن من آذار.. المرابط وجورة حوا، تعشق حاضر الصغير سوق الخضرة الطازجة، وتحب العاصي الذي كناية به أسمت مولودها البكر، تتحدث بدفء وصدق ممزوج بروح الفكاهة عن مجانين المدينة (أبو مراية) وعن الأكلات الحموية الشهية، وكذلك عن طريقة التعاطي بين الجيران، وعن نخوة أهل تلك المدينة وحبهم للناعورة وخصوصاً المحمدية.

للروائية موهبة خلاقة في استدراج القارئ لتجول به كدليلة سياحية ممتازة في أزقّة حماة مدينتها التي لها ما لها من آلام وآثام، وهي المدينة التاريخية العريقة.

في حياتها كانت جدّة نجلا، بطلة الرواية، توصي ابنها دائماً بالتبرع للجمعيات الخيرية وكل ما كانت تحكيه الجدة حفر بإزميل يشبه إزميل خليل، النحّات المسيحي الطيب الذي كانت في بيته شجرة كباد راحت زوجته، بعد موته، تبيع الكيلو بعشر ليرات فيما كان خليل يوزعها مجاناً للجيران. تمرّ عبر نجلا، كشخصية أساسية في الرواية، تمرُّ أكثر من ظاهرة اجتماعية ابتداء بلينا، التي اكتشفت نجلا أنها تخون زوجها، مروراً بالأفندي الكبير (النسونجي) والغني جداً، وعماد وخليل المتهم بهوى الصبيان، والشاعر سمير ومدير العمل ونائب المدير وقصص الروتين والكذب والميزانية العدم ومهرجان الربيع.

تبدو حماة في خريطتها الروائية كإجاصة مقضومة دليلاً على أن شيئاً ما كان ينقصها، فيمنع نجلا من الشعور بالرضا.

تعتبر (على صدري) من أكثر الروايات بعد (جورة حوا) قرباً إلى القارئ الذي يعرف مدينة حماة، وبالأخصّ للذي يعاشر أهلها.

من الملاحظ في الرواية أيضاً أنَّ الروائية تستخدم مفردات حموية بحتة وأخرى استخدمتها لأول مرة مثل الماركسية، الشيوعية، أحد الشعانين والنصارى.

أظن أن بين منهل السراج وحماة حبّاً جميلاً ورهيباً، قاتلاً ومحيياً في الوقت نفسه، وأرى أنها تتحدث عن الفنون الجميلة كالرسم والمسرح والنحت، إضافة إلى الشعر، بشيء من الحنين.

ربما يكون تحليلي في غير مكانه إلا أنني أرى أن منهل كروائية ترسم مدينتها بروح فنان تشكليلي ورسام مبدع وشاعر مليء بالأحاسيس.

تحية لك منهل وأنت تجسدين حب الوطن بلا خوف، وتعشقين أرض أجدادك ودكان أبوك في سوق الطويل (أكبرسوق شعبي في مدينة حماة) بلا توجّس للساعة المرعبة.

العدد 1105 - 01/5/2024