الأمم المتحدة في حالة موت سريري

د. نهلة الخطيب:

استعراض وخطابات رنانة وقرارات غير ملزمة من الجمعية العمومية في دورتها الـ78 في نيويورك، وهي اجتماعات دورية كل ثالث ثلاثاء من شهر أيلول كل عام، وفي سابقة نرى رؤساء أربع دول من الخمس الدائمة العضوية لا يشاركون في أعمال الجمعية، فالرئيس الصيني عادة لا يأتي، والرئيس الروسي مشغول بالحرب الروسية الأوكرانية التي تحتل الصدارة في المناقشات، والرئيس الفرنسي يستقبل الملك البريطاني وقد يكون ذلك إقراراً منه بتراجع النفوذ الفرنسي، وأخيراً تغيّب رئيس الوزراء البريطاني. زيلنسكي يشارك للمرة الأولى ببدلته العسكرية، فالعالم يتحرك والأمم المتحدة تعكس طبيعة العلاقات الدولية وموازين القوى واحتدام الصراعات وتعدد الأزمات، ومن الناحية القانونية نحن أمام تخبط وفوضى واضطراب استراتيجي ونظام عالمي يحاول أن يتشكل من جديد، وهذا ما يؤكده بلينكن: (ما نشهده الآن هو أكثر من مجرد اختبار لقوة النظام العالمي الذي ظهر بعد الحرب الباردة، إنها نهايته)، قالها من قبله لافروف، ولكن بلينكن لم يحدّد أيّ نظام جديد يطمح له، بينما روسيا والصين تريدان نظاماً متعدد الأقطاب، ولكن حتى نظام متعدد الأقطاب وفق روسيا والصين غير واضح المعالم، وقد وصف مدير مجموعة الأمم المتحدة في مركز الأزمات الدولية الوضع في الأمم المتحدة بأنه قاتم (ويبدو أننا أقرب بكثير إلى حافة الهاوية مما كان عليه الأمر قبل عام)، النظام الدولي يحتضر ومازالت الدول الدائمة العضوية كالصين مرشحة لأن تكون أقطاباً جديدة، فهل الأمم المتحدة تحتضر أيضاً؟

تشكلت منظمة الأمم المتحدة ذات الطابع العالمي عام 1945 في أعقاب الحرب العالمية الثانية وما زالت إلى الآن قائمة على القواعد نفسها، وجاءت مقاصد المنظمة وأهدافها في المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة، وهي حفظ الأمن والسلم الدوليين وإنماء العلاقات الودية بين الدول على أساس المساواة، وتحقيق التعاون الدولي، وحل المشكلات الدولية، وجعل الأمم المتحدة مرجعاً لتنسيق الجهود فيما بينها. الجمعية العمومية هي البرلمان العالمي، تتمثل فيه كل الدول بينما مجلس الأمن يتشكّل من ممثّلي خمس دول فقط، وقرارات الجمعية العامة ليس لها فعالية كبيرة مثل القرارات الصادرة عن مجلس الأمن، الذي هو أعلى سلطة في المنظمة، وهو بحالة انعقاد دائم يتكون من خمس دول دائمة العضوية تتمتع بحق النقض (الفيتو) الذي يتعارض مع مبدأ المساواة المطلقة بين الدول، وقد أصرّ على حقّ الفيتو في مؤتمر تأسيسها في سان فرانسيسكو الاتحادُ السوفييتي، وعارضته أمريكا وحلفائها، والآن أصبحت الآية معكوسة.

تعديل مجلس الأمن وإحيائه يطرح إشكالاً إلى حد كبير، على الرغم من المحاولات الكثيرة التي حصلت وخصوصاً من فرنسا التي تطرح تعديلاً وتوسيعاً لمجلس الأمن بصيغة أخرى، وكانت شكَت لفترة طويلة من أن الفيتو أداة تعطيل، وليس من الآن، فبعد الحرب العالمية الثانية انقسم العالم إلى كتلتين: الاتحاد السوفييتي وحلفائه، والولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، وكلّ مشروع قرار تقدمه إحدى الدولتين تعارضه الأخرى. الاتحاد السوفييتي في الخمسينيات حاول تعطيل مجلس الأمن في الحرب الكورية حتى وصل إلى حالة فشل وعجز تام، فاقترح المندوب الأمريكي اتشي سون عام 1950 مشروع قرار (الاتحاد من أجل السلام) يعطي الحق للجمعية العامة أن تحل محل مجلس الأمن في حال فشله في اتخاذ إجراءاته الأساسية في حفظ الأمن والسلم الدوليين وتصدر قراراتها وتوصياتها في هذا الشأن خلال 24 ساعة، وهو تعديل ضمني لاختصاصات الجمعية العمومية، وكان هذا القرار من أهم القرارات، فقد منح الجمعية الغامة اختصاصاتٍ إضافية على حساب مجلس الأمن، وعند التصويت على القرار تغيّب مندوب الاتحاد السوفياتي وكأن الموضوع متفق عليه!!

الولايات المتحدة الأمريكية مترددة في الموافقة على توسيع مجلس الأمن، وعندما يدعو الرئيس بايدن إلى إحياء مجلس الأمن وتوسيعه تبقى قيدَ البحث مسألةُ كيفية توسيعه وإلى أي درجة، فهولا يتكلم عن حق الفيتو، ولا يعني شيئاً توسيع مجلس الأمن إذا بقي حق النقض (الفيتو) محصوراً بالدول الخمس فقط، وهناك وجهات نظر مختلفة ومطالبات من ألمانيا واليابان وجنوب إفريقيا والهند ودول أخرى لتكون عضواً دائماً بمجلس الأمن يحظى بالصلاحيات نفسها والقوة التي تحظى بها الدول الخمس دائمة العضوية، وهذا يحتاج إلى مزيد من البحث وموافقة دولتين وليس هناك من يوافق عليه حتى روسيا والصين، بل ترفضان توسيع المجلس وإعطاء دول أخرى حق الفيتو، فروسيا ترفض الحد من قوة حق الفيتو الذي استعملته هي والصين بقوة في الحرب السائدة في أوكرانيا، وهي واحدة من الأدوات الروسية لتعزيز قوتها، فعندما نصل إلى النقطة الصعبة في توسيع مجلس الأمن يزداد الأمر تعقيداً، إذاً، الموضوع معقد بمعنى أن ما أفرزته الحرب العالمية الثانية لا يزال هو السائد.

هناك أحادية أمريكية في النظام العالمي منذ نهاية الحرب الباردة، وهي القوة العظمى الوحيدة عملياً، وهناك انطباع أنه عندما يتعلق الأمر بدول تدعمها الولايات المتحدة هي من يتصرف، وعندما يتعلق بدول أخرى ربما لا تهمّها  كثيراً تترك الأمم المتحدة من يتصرف، فعند غزو الكويت وبما أن منطقة الخليج منطقة منتجة للنفط والطاقة تدخلت 149 دولة، وكان من السهل ترتيب هذا التحالف الدولي الكبير مع نهاية الاتحاد السوفييتي، بينما في البلقان في قلب أوربا تأخر التدخل كثيراً ما بين أوائل التسعينيات وأواخرها، لأن حجم المصالح أقل والتنافسية السياسية متباينة. وكذلك نرى التناقضات في النيجر، فالولايات المتحدة ليست على خط فرنسا نفسه، وفي أوكرانيا حسب القانون الدولي هو غزو موصوف، وبما أن روسيا والصين عضوان دائمان في مجلس الأمن، لم تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة من العمل فيها، ومن يعمل هو الحلف الغربي الذي انخرط في الحرب إلى جانب اوكرانيا.

إذاً، الأمم المتحدة تنظيم دولي يُعنَى بصياغة العلاقات بين الدول، وهي علاقات قوة بين الفاعلين، والذي يسود هو الأقوى، فمقاييس القوة هي التي تتكلم وليس التنظيم الدولي الذي يكون له قيمة عندما يكون هناك اتفاق بين الدول، ومع اختلاف موازين القوى وخاصة الاقتصادية أصبح من السهل إدخال دول جديدة دائمة العضوية، ولكن حق النقض لا يمكن إصلاحه إلا بموافقة الخمس الدائمين، وهم حالياً متفقون أن لا يكون حق النقض في الفترة الحالية إلا لهم، فعصبة الأمم لم تسقط إلا بالحرب، والأمم المتحدة التي صمدت كل هذه السنوات ستنتهي بالحرب.

العدد 1107 - 22/5/2024