الجرح السوري الكبير

فادي إلياس نصّار:

عاجلاً أم آجلاً، ستنتهي الحرب في كل البقاع السورية، مُخلفةً وراءها رائحةَ البارود وآهات الأُمهات وقلوباً مكسورة، مُخلفةً جيلاً كاملاً من البشر الذين يحتاج كل فردٍ منهم إلى إعادة بناء وتأهيل الإنسان فيه.

ستنتهي الحرب بعد أن تكون قد نهشت جسد البلاد من كل نواحيه، وبعد أن أحرقت آلاف الهكتارات من الغابات الساحرة وأخرى من المحاصيل الزراعية الغناء، وبعد أن نهبت 80 في المئة من إنتاج النفط والغاز السوري، على مدى عقد ونيف، ستنتهي الحرب فيتهافت كل رأسمالييّ العالم بحثاً عن حصة لهم في كعكة إعادة إعمار البلاد (بهدفٍ غير إنساني)، هذا إن تمت العملية أصلاً.

أكثر من عشر سنواتٍ مرت، دمرت خلالها آلة الحرب على سورية، والجرائم التي ارتكبها (تنظيم الدولة الإسلامية) وإخوته في حق المدنيين، الحياة السورية تدميراً شبه كامل، فقد أشارت اليونسيف إلى أن ما يقرب من تسعة ملايين طفل تأثروا بالحرب (جزء منهم، وهو ليس بالقليل، انخرط في أعمال العنف)، وأن نصف هذا العدد حُرموا من الذهاب إلى مدارسهم، بسبب نزوح أهاليهم، وبقاء أهالي آخرين في مناطق سيطرة دولة التخلف والأمية (داعش)، كما خسرَ عشرات آلاف الأطفال أحد والديه أو كليهما، فيما خسرت آلاف العائلات مصدر رزقِها الوحيد، وتعرضت ينابيع المياه ومصادر الطاقة في طول البلاد وعرضها إلى النضوب شبه النهائي، ونُهبت آلاف القطع الأثرية (23 ألف قطعة) وهُدمَ نحو نصف مليون منزل، وانتشرت الأمراض السارية مُهددةً حياة الإنسان السوري.

في مواجهة هذا الدمار الرهيب، يُصبح مشروعاً طرح أسئلة من وزن: هل سيتعافى جيل ما بعد الحرب، من العقدة الرهيبة التي تركتها المشاهد الفظيعة للرؤوس، والأذرع والأقدام المقطوعة؟ وهل سيتعافى الأطفال الذين سُرقت أعضاؤهم، والنساء التي بيعت في سوق النخاسة؟

ثم ما هو الحجم الحقيقي للتشوه الإنساني الذي لحق بالمجتمع السوري الذي اختل توازنه الديموغرافي منذ سنوات الحرب الأولى؟

دمرت الحرب بحدود 40 في المئة من القطاع التعليمي، تدميراً شبه كاملاً. الأمر الذي أدى إلى ولادة جيل نصفه تقريباً جاهل، والبقية شبه متعلمة، وعليه فالدولة السورية اليوم أمام مهمة صعبة ألا وهي إعادة تأهيل جيل كامل.

تكمن صعوبة هذه المهمة، في أن الدولة يجب عليها أولاً إخراج هذا الجيل من بوتقة العقد النفسية التي خلفتها الحرب (خلفت نحو مليوني إصابة نفسية)، ومن ثم العمل على وضع قوانين وأنظمة جديدة تساعد على إعادة بناء جيل حضاري، واعتماد سياسة إعلامية تُعمق ثقافة التسامح ضد ثقافة الحرب والعنف والاقتتال، فتخلق بذلك إعلاماً جديداً، جدي. وليس ضعيفاً، سطحياً وممجوجاً، كما يجب عليها وضع مناهج تربوية تعليمية جديدة تُرسخ لدى هذا الجيل مفاهيم أكثر إنسانية بعيداً عن التشدّد الديني والتمييز العرقي والسياسي، والعمل على تفعيل فكرة التآخي الحقيقي وليس الشكلي (كما كان سائداً في سورية)، وستكون هذه المهمة جزءاً لا يتجزأ من حرب ما بعد الحرب.

ستُنتج عملية إعادة إعمار الإنسان السوري (ربما بعد عقودٍ أربعة) جيلاً يعرف حقوقه وواجباته بدقة، متعلم وواعٍ، يُدرك عمق المشاعر الإنسانية ويتعامل مع الآخرين برُقيٍّ، وليس بغرائزية (يعمل منظرو العولمة منذ زمن طويل على نشر برامج تلفزيونية تميل إلى الميوعة في كل دول العالم لتفريغ الأجيال من محتواها الإنساني)، سينتج جيل ينظر إلى الطبيعة الأم على أنها الملاذ الأول والأخير لإنقاذ البشرية، فيحميها، يهتم بشؤون الطفل والمرأة، ويعي أن انتماءات الناس (الدينية والفكرية والسياسية) ليست مقياساً لتقييم الناس وبناء العلاقات بين البشر.

ولكن إن نجحنا في إعادة تأهيل الإنسان السوري، بعد أن نمسح عنه جروح الحرب، معيدين له شيئاً من حقه في الحياة، مُنقذين إياه من مطرقة السياسات الاقتصادية المُرهقة، المُوجعة والمُذلة، (مُستعيدين إلى خزينة الدولة، كل الأموال المنهوبة من قبل طابور الفاسدين، وبعض المسؤولين السابقين، والقضاء  على مظاهر الترهل والروتين) أضف إلى ذلك، العمل الفوري  والحثيث على تحريره من سندان التجار وحيتان المال، الذين جعلوه (يشهق ما يلحق)، وإعادة كل شيء إلى قبضة المؤسسات، بذلك فقط سنثبت للعالم أن الحروب (الداخلية والخارجية) لا تُنهي الأُمم، وأن جنون الوحش الأمريكي ومن معه من دول الناتو وحلفائه، لن يقف في وجه شعب هو الوريث الوحيد لحضارات الآشوريين، والسريان، والكلدان والفينيق… شعب سورية الذي لا يموت.

العدد 1107 - 22/5/2024