اليونان وارتدادات زلزال اليمين  

د. نهلة الخطيب:

يعد بروز اليمين المتطرف على الساحة السياسية الأوربية إحدى أكثر الظواهر السياسية أهمية خلال العقدين الآخرين من القرن الماضي في أوربا، وهذا الأمر يتكرر كلما عصفت الأزمات الاقتصادية بالقارة العجوز، وشهدنا ذلك في أزمة الكساد العالمي في عام 1930 عندما صعدت الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا كبديل أمام الشعوب لحمايتها من الخطر. هذه الظاهرة ليست على مستوى واحد في أوربا كلها ذلك أنها متغيرة من دولة إلى أخرى ومن وقت إلى آخر، فإذا كانت بعض الدول مثل فرنسا وايطاليا وبلجيكا وهولندا والنمسا تواجه وضعاً يؤثر بعمق على نظمها السياسية، فإن دولاً أخرى على العكس مثل بريطانيا واليونان والسويد ما تزال حتى الآن متجنبة هذا المد المتطرف، والسمة الرئيسية الغالبة على الجماعات والأحزاب المنضوية في إطار اليمين بشكل عام، سواء كانت أحزاباً متطرفة تعمل في إطار عملية ديمقراطية أو أخرى معارضة لها، هي الخطاب الذي يتحدث باستمرار عن وجود تهديد عرقي أو ثقافي ضد مجموعة أصلية من قبل مجموعات تعتبر دخيلة على المجتمع، وعن ضرورة الحفاظ على الهوية الوطنية، ثم تأتي معارضة اليمين المتطرف للهجرة ورفض المهاجرين، إضافة إلى النزعة القومية  وتوظيف الإسلاموفوبيا في ممارساتها السياسية ودعاياتها التي تتبنى أفكاراً عنصرية متطرفة تحض على كراهية الأجانب وتعنيفهم، بينما يدعو اليمين المحافظ إلى الحفاظ على الهوية الثقافية للمجتمع عن طريق الحوار وبالوسائل السلمية.

أدى كيرياكوس ميتسوتاكيس المنتمي لعائلة سياسية، اليمين الدستورية لبدء ولايته الثانية رئيساً لوزراء اليونان مدتها أربع سنوات حتى عام 2027، كان الأكثر حظاً في الانتخابات التشريعية التي جرت في 25/7/2023، وفوز حزبه اليميني المحافظ (الديمقراطية الجديدة) فوزاً كاسحاً، إذ حصل على 40,55% من الأصوات و158 عضواً من أصل 300 في البرلمان في انتخابات تشريعية عامة هي الثانية بفارق خمس أسابيع عن الجولة الأولى التي جرت في 21/5/2023، وتميز فوزه بالغالبية المطلقة دون منافسة بمواجهة معارضة يسارية ضعيفة للغاية، سنحت له الفرصة من أجل تشكيل حكومة من دون الاضطرار إلى بناء تحالفات ومتجنباً تبعات الحكومة الائتلافية، وتفويضاً شاملاً لإدارة الاستحقاقات الاقتصادية والإدارية والاجتماعية التي تواجهها اليونان، تفويضاً جعل ميتسوتاكيس يؤكد لمناصريه أن (الديمقراطية الجديدة) هي أقوى حزب من اليمين الوسط في أوربا، وتعهد بتسريع التغييرات الكبيرة التي تحتاجها اليونان للسنوات الأربع المقبلة قائلاً: (لدينا الخطط والخبرة لجعل كل هذا حقيقة واقعة)، وخصّ بالتغييرات زيادة الأجور وتحسين الرعاية الصحية وتوظيف كوادر طبية وأطباء في المستشفيات العامة، ومعالجة الأزمة المالية وما يعانيه اليونانيون من ارتفاع تكاليف المعيشة والتضخم وانخفاض الأجور رغم  تعافي الاقتصاد اليوناني نسبياً بفضل تنشيط السياحة في البلاد، إذ أصبح من أفضل اقتصادات منطقة اليورو بحسب ميتسوتاكيس الذي علق (إن الأرقام تتحدث عن نفسها)، فقط نما الناتج المحلي الاجمالي 5,2 خلال الربع الأخير من عام 2022 وزيادة بإجمالي 29 مليار يورو، وخفض الضرائب بنسبة تقدر 50% إضافة إلى تحديث البنية التحتية للدولة.

ومُنيت المعارضة اليسارية سيريزا برئاسة أليكسيس تسيبراس الذي تسلم السلطة في الفترة (2015-2019) بهزيمة جديدة أمام حزب الديمقراطية الجديدة، وفشلت في الحفاظ على نتائجها البالغة 20% في الانتخابات السابقة إذ حصل على 17,84%  فقط من الأصوات بتمثيل 48 نائباً فقط في البرلمان الجديد.

ما يميز هذه الانتخابات انخفاض عدد المشاركين مقارنة بالجولة الأولى، إذ بلغت في الجولة الأولى 47% مقابل 39% في الجولة الثانية، إضافة إلى صعود اليمين المتطرف بدخول  ثلاثة أحزاب قومية متشددة ومعارضة للهجرة المعترك الانتخابي، حصلوا على 34 نائباً و 13% من الأصوات،  4,68% منهم لحزب الفجر الذهبي المحسوب على النازيين الجدد، ومُنع الياس كاسيدياريس رئيس الحزب الموقوف حالياً، من الترشح للانتخابات على خلفية إدانته بقيادة منظمة إجرامية والتحريض على العنف، بوصول حزب الفجر الذهبي إلى البرلمان اليوناني بدأ يسري شعور بالخطر بشأن نوعية الديمقراطية في اليونان وانعكاساته ليس فقط على النظام السياسي الراسخ ولكن أيضاً على الإطار الديمقراطي الأساسي للدولة.

تحديات كبيرة تواجهه الحكومة الجديدة في مقدمتها الوضع الاقتصادي الذي تأثر بالأزمة العالمية بعد الحرب الروسية الأوكرانية، وارتفاع الأسعار والتضخم والبطالة وحادثة القطار التي أزهقت أرواح العشرات، والحرائق التي تجتاح العالم هذه الأيام وكانت اليونان الأشد تضرراً بعدما دمرت الحرائق 50 ألف هكتار مهددة النظام البيئي اليوناني، وإجلاء أكثر من 30 ألف شخص من منازلهم ومنتجعاتهم في جزيرة رودس.

ملف اللاجئين إذ يمثل تدفق المهاجرين تحدياً كبيراً على الاقتصاد اليوناني وضغطاً كبيراً على موارد الدولة وخدماتها، وشهدت السواحل اليونانية غرق قارب لمهاجرين أدى لمقتل مئات الأشخاص في حادثة الأسوأ من نوعها كانت لها تبعات سيئة وضعت اليونان في مساءلة بانتهاكات لحقوق الانسان.

التوترات مع دول الجوار والخلاف بين تركيا واليونان وخاصة تلك التي ظهرت إبان التنقيب عن النفط والغاز في حوض البحر المتوسط، عندما طالبت تركيا بحصة من هذه الموارد واعترضت اليونان على ذلك.

وأخيراً نجد أن التطرف وتفاقم النزعة القومية أصبح منتشر في أوربا التي تواجه تحديات سياسية كبرى بسبب الحرب الروسية الأوكرانية ووباء كورونا وتحديات العولمة واللجوء والهجرة والأزمات التي يعيشها العالم الآن، وباتت أحزاب أقصى اليمين تحكم دولاً أوربية والتشكيك الشعبوي في الديمقراطية وفي مؤسساتها وإيمانهم بأن هذا النمط من الحكم لم يعد يوفر الأمان الاقتصادي للسكان، وهذا سيؤدي إلى زعزعة استقرار المجتمعات الأوربية وقد تنجح محاولاتهم يوماً ما. وقد نكون على أبواب مرحلة يعاد فيها تشكيل هوية أوربا وخريطة التحالفات السياسية وتحديد الأولويات وخصوصاً أن الاقتصاد الأوربي الذي يمثل ما يقرب خمس الناتج الاجمالي العالمي يواجه أصعب اختبار له بالوقت الراهن.

العدد 1107 - 22/5/2024