المغرب والجزائر.. وحرب رمال جديدة؟

د. نهلة الخطيب:

الحدود الدولية كما يُعرّفها رجال السياسة هي موقع جغرافي تلتقي عنده قوى دولتين وينتهي عند نفوذ كل منهما، وتحدد كيان الدولة ومساحة إقليمها البري والمائي حيث تباشر سيادتها وسلطانها. وتخطيط الحدود يستلزم معرفة طبوغرافية الأرض وإدراك الاختلافات وأوجه الشبه بين السكان في الجنس والدين واللغة …الخ، وتتعدد أنواع الحدود فمنها ما يساير نهراً أو جبلاً أو يمتد عبر الصحارى.

نزاعات الحدود الدولية تعود لعدة أسباب أهمها الحدود الاستعمارية التي وضعت بطريقة تتناسب مع المعطيات التاريخية والجغرافية، وترك الاستعمار بعض المناطق دون تحديد تبعيتها بين الدول لتظل بؤراً للتوترات في المستقبل فيجري إشعالها فيما يتناسب مع مصالح الدولة المستعمرة في إدارة الحروب. ومن أسباب نزاعات الحدود أيضاً رسم حدود الدول دون أدنى اعتبار لحقوق السكان أو توافقهم العرقي واللغوي والثقافي، فقط جُمعت قوميات متناثرة وثقافات متنوعة في كيان واحد، وقطعت شعوباً متجانسة بين عدة كيانات وكان الناتج بروز دول وكيانات سياسية تفتقر إلى عنصر التجانس والتميز والذي هو من أهم أسباب تماسك الدولة القومية.

ساهمت عدة عوامل في اندلاع الصراع بين المغرب والجزائر، ولكل طرف حجج وبراهين تؤكد أحقيته في رأيه وسيادته على حدوده، قبل الاحتلال الفرنسي في القرن الـ19 لم يكن هناك رسم للحدود، فالتقسيم السياسي للمغرب العربي كان وليد التقسيمات الناجمة عن توزيع مناطق النفوذ بين القوى الاستعمارية الكبرى في إفريقيا دون مراعاة العوامل الطبيعية أو خصائص المجتمعات المغربية المتجاورة مما أدى الى خلق بؤر توتر ونزاعات، وبذلك أصبحت أكبر دولتين وأكثرها فاعلية على الإقليم المغاربي (الجزائر والمغرب) أكثر عرضة للخلافات الحدودية والتنافس الجيوسياسي، فرغم تشابه البلدين الجارين في التكوين العرقي بين عرب وبربر وتأثرهما بالثقافة الإسلامية والفرنسية إلا أن لكل منهما إيديولوجيا مختلفة تماماً عن الآخر وفي اصطفافين متضادين عالمياً، فالمغرب انحازت إلى المعسكر الغربي والولايات المتحدة الأمريكية، والجزائر انحازت إلى المعسكر الشرقي والاتحاد السوفييتي.

بعد احتلال فرنسا للجزائر ضمت بعض المناطق المغربية، وهي بشار وتندوف لها، وأصبحت جزءاً من فرنسا لغناها بالموارد الطبيعية والمعادن الثقيلة، وفي عام 1957 اقترحت فرنسا إعادتها إلى المغرب وبإدارة مشتركة، رفضت المغرب الاقتراح خشية الحراك الجزائري ضد فرنسا حينها، وتم الاتفاق مع الحكومة المؤقتة للجزائر على تسوية الخلافات الإقليمية عند الاستقلال، ولكن فشل الاتفاق ورفضت الجزائر التخلي عن أي أرض على مبدأ الحق الموروث عن الاستعمار، فاقتتل الطرفان واندلعت حرب الرمال عام 1963، ولم ينتصر أيٌّ منهما وتم تسوية الصراع لاحقاً ولكن التوتر بين الدولتين لم يتوقف يوماً.

في عام 1974 أعلنت إسبانيا نيتها الانسحاب من مستعمرتها الصحراء الغربية التي تقع جنوب المغرب وتنظيم استفتاء لتقرير المصير بناءً على توصية الأمم المتحدة، ثم جاء اتفاق مدريد عام 1975 الذي أنهى الاستعمار الإسباني للصحراء الغربية، وبمقتضاه تقاسم المغرب وموريتانيا الإقليم، لكن الاتفاق قوبل برفض جزائري شديد، تطور إلى مواجهات ومقاومة من ميليشيات صحراوية محلية بقيادة جبهة البوليساريو مدعومة من الزعيم الليبي معمر القذافي، ثم من الجزائر التي كانت ترى في الصحراء الغربية منفذاً للمحيط الأطلنطي وممراً بديلاً لمضيق جبل طارق، فبدأ الصراع بين البلدين واحتدمت المواجهة الدبلوماسية على كل الأصعدة الإقليمية والدولية، وفي عام 1976 أعلنت جبهة البوليساريو عن تأسيس الجمهورية العربية الصحراوية واتخذت من مخيمات تندوف جنوب غرب الجزائر مقراً لها، في عام 2021 اتهمت الجزائر المغرب بالمشاركة في إشعال حرائق الغابات وتوفير الدعم للانفصاليين راح ضحيتها 30 ألف جندي جزائري، لذا قررت الجزائر قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب بسبب ما قالت (إنها أعمال عدائية)، كما أن الحدود بين الجارتين مغلقة منذ عام 1994. تكبد المغرب والجزائر في هذا النزاع خسائر اقتصادية هائلة واتجها إلى سباق تسلح مكلف جداً، رغم أنهما يشتهران بغناهما بالموارد الطبيعية الاستراتيجية والجزائر غني بالنفط والغاز الطبيعي، ومع ذلك ووفقاً لبيانات من صندوق النقد الدولي فان المغرب والجزائر من أفقر دول العالم.

إنجاز دبلوماسي حققه المغرب بالاعتراف الصهيوني بمغربية الصحراء الغربية، فقد ذكرت تقارير صحفية مغربية بتاريخ 17\7\2023 نقلاً عن الديوان الملكي أن الملك محمد السادس تلقى رسالة من رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو تتضمن قرار إسرائيل الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء المغربية، وتدرس فتح قنصلية لها في إطار تكريس هذا القرار في منطقة الداخلة المتنازع عليها مع جبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر والتي تطالب بدولة مستقلة في الصحراء الغربية واستفتاء على حق تقرير المصير، وجاء في البيان إنه سيجري (إخبار الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية والدولية التي تعتبر إسرائيل عضواً فيها وكذلك جميع الدول التي تربطها بإسرائيل علاقات دبلوماسية بهذا القرار).

وكان المغرب قد طبّع العلاقات مع إسرائيل في 10/11/2020 بوساطة إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مقابل الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، مع نظرائه من الدول العربية المطبعة مع إسرائيل والموقعة على اتفاقيات الإمارات والبحرين ومصر المغرب (عُرفت باتفاقيات أبراهام)، وهي اتفاقيات وقعتها اسرائيل مع دول عربية بوساطة أمريكية وهذه الاتفاقات لم تكن لتتم لولا الحوافز التي قدمتها واشنطن للدول المطبعة تضمنت طائرات F35 للإمارات وخروج واشنطن على الإجماع الدولي بشأن الصحراء الغربية والتخلي عن عقود من سياسة الحياد الأمريكية تجاه هذا النزاع من خلال الاعتراف بالسيادة المغربية على الإقليم، وتم تعيين أول ملحق عسكري لإسرائيل في المغرب (العميد شارون إيتاح) وهو من عائلة يهودية عاشت في المغرب ويتحدث اللغة العربية باللهجة المغاربية)، لتعزيز وتطوير العلاقات الأمنية بينهما والتي شملت زيارة لكبار القادة العسكريين الإسرائيليين وإجراء عدد من المناورات والتدريبات كان آخرها (الأسد الإفريقي) بمشاركة وحدة النخبة جولاني في المغرب.

تعتبر المغرب الصحراء الغربية أرضاً مغربية ومحوراً أساسياً في تحديد السياسة الخارجية المغربية وعلاقاتها بالدول الأخرى، وهذا ما أكده الملك محمد السادس في الذكرى الـ69 لثورة الملك والشعب (أن ملف الصحراء الغربية هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم وهو المعيار الواضح والبسيط الذي يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات)، وكسب التأييد لموقفها تجاه الصحراء الغربية هو الهدف النهائي للدبلوماسية المغربية التي اكتسبت جرأة في خطتها للحكم الذاتي بعد اعتراف دونالد ترامب وما تلا من دعم من قوى غربية مثل إسبانيا التي كانت تحتل المنطقة سابقاً، وفتحت 28 دولة قنصليات في منطقة الداخلة والعيون، (وتبقى فرنسا الدولة الأوربية التي ما زالت تحتفظ بموقف ضبابي من النزاع)، وهذا ما يعتبره المغرب دعماً ملموساً لحكمه في الصحراء الغربية ومن بين الدول العربية الإمارات والبحرين ومصر والسعودية.

واعتبر محلل سياسي مغاربي أن هذا الاعتراف بمثابة العمود الفقري للعلاقات الثنائية بين الطرفين المغربي والإسرائيلي، وأن المغرب اختار الاعتراف الدولي كهدف استراتيجي وإدراك الشركاء التقليديين والجدد لحيوية ملف الصحراء الغربية كأولوية وطنية، وأن هذا القرار لن يؤثر بأي شكل من الأشكال على الموقف المغربي الثابت والداعم للقضية الفلسطينية والتزام الملك رئيس لجنة القدس لخدمة مسيرة السلام والاستقرار في الشرق الأوسط.

ومكاسب هذا القرار حسب خبراء في العلاقات الدولية أنه سيعزز مسار التسوية السياسية للملف الصحراوي، وكذلك الحضور الإسرائيلي في العديد من المنظمات الحكومية وغير الحكومية إضافة إلى قوة اللوبي اليهودي في المنصات السياسية الدولية سيكون مهما بالنسبة للتحركات الدبلوماسية المغربية في ملف هذا النزاع الاقليمي المفتعل.

ويرى مناهضو التطبيع أن مغربية الصحراء لا تحتاج إلى الاعتراف الإسرائيلي بها وهو بمثابة خنجر مسموم تطعن به قضية الصحراء وتفقدها مرجعيتها الوطنية الشعبية، وهو منصة لاختراق المغرب بل المنطقة الافريقية ككل عبر الغرب الإفريقي بهدف السيطرة على ثروات ومقدرات المغرب في الصحراء المغربية وهو أكبر هدية لأعداء المغرب، (وهو أسرلة للصحراء وليس مغربة لها).

دانت الجزائر هذا الاعتراف معتبرة أن إسرائيل بسجلها الأسود في خرق القوانين الدولية وقرارات الشرعية الدولية لا تملك هذا الحقّ وأن هذا صفقة مفضوحة لا يمكنها إضفاء الشرعية على احتلال الأراضي الصحراوية ولا المساس بحق الشعب الصحراوي غير القابل للتصرف ولا السقوط بالتقادم في تقرير مصيره طبقاً لقرارات مجلس الأمن ولوائح الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي.

المغرب يعرب عن ارتياحه بفرض سيادته على الصحراء الغربية وأن الدور الآن على الصحراء الشرقية، فالصحراء المغربية تضم الصحراء الغربية والصحراء الشرقية بشار وتندوف التي يؤمن الكثير من المغاربة أنها أراضٍ مغربية اقتطعها المستعمر الفرنسي وضمها للجزائر وسيأتي اليوم الذي يفتح به الملف من أجل تحريرها، وهذا ما أكدته مديرة الوثائق الملكية في المغرب بهيجه سيمو حول أحقية المغرب بالسيادة على الصحراء الشرقية مستندة إلى بعض الحجج التاريخية وأن الوثائق متوفرة جداً في المغرب.

باستحضار الخلافات السياسية المعقدة ولو بإيجاز بين البلدين الجارين نجد أنها فترة حساسة جداً تشهد حرباً دبلوماسية قد تتحول إلى صراع عسكري في ظل التوترات التي يعيشها العالم، وخاصة أن الجزائر قد بدأت مرحلة استعراض العضلات والحشد ضد المغرب الذي وقع على مذكرة تفاهم دفاعية مع إسرائيل التي أوقدت فتيل النزاع مجدداً بهذا الاعتراف ولعلها تعيد به ملف الصحراء إلى المربع الأول.

العدد 1107 - 22/5/2024