السودان بين فكّي الجيش وظلّه

د. نهلة الخطيب:

صورة العالم الآن مأساوية: دول تتصارع فيما بينها وغير متفقة على بنية النظام الدولي الذي أصبح مرناً جداً، ثبات القوة الامريكية مع تصاعد قوى عظمى كالصين وروسيا ودول أخرى بنسب نمو متسارعة ولا يوجد وضوح مَنْ هو صانع القرار، هذه مرحلة انتقالية تكون خطرة جداً يولد فيها بؤر توتر هنا وهناك، وللعالم الثالث ومنطقة الشرق الاوسط حصة الأسد منها، وهي التي كانت تاريخياً مسرحاً للصراعات الاقليمية والدولية.

يقع السودان في خضم شبكة مصالح وتقاطعات إقليمية ودولية واسعة، ألقت بظلالها على المشهد السياسي السوداني تاريخياً، في ظل موقعه الإفريقي المتميز وباعتباره ورقة مهمة تخدم مجموعة مصالح في سياق التوازنات الدولية، ولطالما اجتذب موقع السودان الاستراتيجي المطل على البحر الأحمر واحتلاله شطراً كبيراً من نهر النيل الذي جعله يمتلك حدوداً بحرية عظيمة وامتداداً لمنطقة القرن الإفريقي ذات الأهمية الاستراتيجية، ومنطقة عبور وملتقى بين أوربا وإفريقيا وآسيا، وكونه مجاوراً للدول النفطية في الشرق الأوسط والخليج العربي، إلى تقوية المصالح والنفوذ في منطقة تتبارى فيها الدول الكبرى على الحصول على المزايا والمنافع المختلفة لها، ويوجد في السودان الكثير من الموارد الطبيعية الكامنة، ويعتبر ثالث منتج للذهب في إفريقيا، إضافة إلى المساحات الزراعية الشاسعة مع توافر مياه الشرب والثروات المعدنية.

عادةً تقوم الجيوبوليتيك برسم استراتيجيات وتصورات سياسية مستقبلية على ضوء تفاعلات البشر والجغرافيا، ومع ذلك لم يستطع السودان الاستفادة من وفرة الموارد الطبيعية ومساحته الشاسعة وعدد سكانه، لتحقيق نمو اقتصادي، وأن يصبح دولة إقليمية قوية منافسة لدول عربية مثل مصر والسعودية، ولم يستثمر حدوده البحرية لامتلاك قوة بحرية تجعله عاملاً مؤثراً وحساساً في موازين القوى والسياسات الدولية، فإذا به على حافة المجاعة.

السودان منذ الاستقلال عام 1956 لم يشهد قيام نظام سياسي مستقر ومستمر، وإنما كانت نظم حكم متعددة ومتناقضة قادته إلى الفشل في بناء نظام سياسي، جوهره عقد اجتماعي يعترف بتعدد الأعراق والديانات والثقافات، وتحقيق التعايش السلمي والرفاهية للسكان، ويجنب البلاد مستنقعات الحروب الأهلية والنزاعات المسلحة ودوامة العنف السياسي، وكان الجيش هو الحاكم الفعلي للسودان منذ إعلانه جمهورية، فقد شهد الكثير من الانقلابات العسكرية نجح منها خمسة وفشلت أمامها العديد من المحاولات، والجيش السوداني يحتل المرتبة 75 في قائمة أقوى الجيوش عالمياً، ويتألف من 200 ألف جندي ويمتلك مئات من الطائرات الحربية والدبابات وآلاف من المدرعات والمدافع وراجمات الصواريخ وأسطولاً بحرياً صغيراً.

حكم عمر حسن البشير السودان الذي جاء بانقلاب عسكري مدة ثلاثة عقود، وسقط في 11/4/2019 بسبب الاحتجاجات المدنية التي استمرت شهوراً ضد حكمه، والتي كانت كافية لإحراج النظام ولم تكن كافية لإسقاطه إلا عندما قررت القوات المسلحة في الجيش وقوات الدعم السريع أن تتخلى عنه وتنضم للمحتجين، رغم العلاقة الوثيقة التي كانت تربطه بهم ذات يوم، ربما خُيل للبعض أن الآمال سوف تتحقق بخروج الشعب السوداني من غياهب عقود من الاستبداد والصراع الداخلي والعزلة الاقتصادية التي عانت منها البلاد في عهد البشير وتشكيل دولة مدنية ديمقراطية، ولكن بدأت تطبق سيناريوهات اخرى بدأها الجيش الذي رأى بالمحافظة على النظام مع تغييرات طفيفة، بإقالة الوجوه غير المرغوب بها التي كانت بحكومة البشير، فبدأ الصدام بين الجيش وقوات الدعم السريع من ناحية والمدنيين من ناحية أخرى، وظلت هذه الخلافات بين مد وجزر لشهور طويلة مرت بمراحل مختلفة بينها مواجهات وقتل، حتى تم الاتفاق على تشكيل مجلس للسيادة المكون من 11 شخصاص منهم عسكريون ومدنيون بالمناصفة برئاسة قائد الجيش عبد الفتاح برهان، وفي 25 تشرين الأول 2021  قام البرهان بدعم من عبد الحميد دقلو (حميدتي ) قائد قوات الدعم السريع بالانقلاب على السلطة، وإبعاد المدنيين عن الحكم وإعلان حالة الطوارئ، ووضع عبدالله حمدوك الذي كان يرأس مجلس الوزراء آنذاك تحت الإقامة الجبرية.

قوات الدعم السريع هي جهاز أمني أنشأه الرئيس السابق عمر البشير كفرع من جهاز الأمن والمخابرات السوداني، وشرعه وفق قانون أجازه المجلس الوطني عام 2017 الهدف المعلن عنه هو حفظ الأمن واستقرار البلاد وضبط الحدود ومواجهة الجريمة المنظمة، عمودها الأساسي الميليشيات الشهيرة باسم (الجنجويد) التي شاركت في قمع المتمردين على الحكومة المركزية في دارفور عام 2003 واتهمت بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية، والهدف الحقيقي هو حماية البشير من انقلاب الجيش كما فعل هو بمن سبقه، وقد أثبتت ولاءها له أثناء صراعه مع المتمردين في دارفور، واختار محمد حمدان دقلو ليكون رئيساً للجهاز الجديد. وكان يصفه عمر البشير بحمايتي لشدة ثقته به، والمعلومات المتداولة حوله أنه حاصل على تعليم متوسط وعمل ببداية حياته في تجارة الإبل والجمال، ثم أنشأ جماعة لحماية القوافل التجارية في المناطق المنفلتة السودانية أو المناطق المجاورة، ثم انضم إلى ميليشيات الجنجويد، سلمه البشير رتباً عسكرية من رتبة ملازم إلى أن قرر أن يعطيه رتبة فريق في 2017، وإضافة إلى أنه قائد لقوات الدعم السريع، كان له مطلق الحرية في السيطرة على مناجم الذهب في دارفور.        ويقدر عدد أفراد قوات الدعم السريع بـ 100 ألف فرد ينتشرون في جميع أنحاء البلاد، وتمتلك عدداً لا بأس به من الأسلحة الخفيفة والثقيلة دبابات ومدافع ورشاشات وصواريخ.

عقّدت الانقسامات بين قوات الدعم السريع والجيش جهود استعادة الحكم المدني، وسرعان ما دب الخلاف بين الرجلين القويين عبد الفتاح برهان (قائد الجيش) ومحمد حمدان دقلو (قائد قوات الدعم السريع) الذي وصف الأول بالمجرم وحمّله مسؤولية الدمار الذي تشهده البلاد، والبرهان وصف قوات الدعم السريع بأنها قوة متمردة وطالب بحلها، جنرالان يتنافسان على مستقبل السودان ويسعى كلٌّ منهما منذ سقوط البشير ليصبح الرجل الأول في السودان. تفجر الصراع على السلطة والنفوذ بين الجانبين وأدى إلى مرحلة لم يعد يمكن وقفها، وتهدّد الوضع الأمني في البلاد.

المواجهة المفتوحة في طول البلاد وعرضها خلفت أوضاعاً مأساوية قتلى وجرحى وكثير من المشافي خارجة عن الخدمة، وكما في كل حرب النزوح بدا مشهداً يومياً والوضع ينذر بمزيد من الكوارث على المستوى الإنساني. لا تنحصر الحرب الدائرة في السودان بين قوتين عسكريتين عبد الفتاح برهان وحميدتي فحسب، بل يحاول كل طرف استخدام شبكة حلفاء للحصول على الدعم، مصر والإمارات والسعودية إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية الداعمة للديمقراطية ومواجهة التأثير الروسي.

ولكل منهما شبكة من العلاقات والحلفاء نسجاها منذ سنوات خلال توليهما مسؤوليات مختلفة خلال حكم البشير، ولكل منهما موارده المالية الخاصة، يتمتع حميدتي بعلاقات دولية قوية مع روسيا وإثيوبيا والسعودية والإمارات، وقد شارك بحربهم ضد الحوثيين في اليمن، وبحسب مركز أبحاث المجلس الأوربي حول العلاقات الخارجية يملك حميدتي ورقة اقتصادية قوية، إذ تدير قواته العديد من مناجم الذهب في إفريقيا، مع تورط قوات فاغنر الروسية بالعمل في تلك المناجم وتهريب الذهب إلى روسيا، وتعد الإمارات أكبر مشتري الذهب المنتج بشكل رسمي؟! وكالة رويترز أكدت في تحقيق أجرته قبل عام وجود عمليات تهريب للذهب من إفريقيا تقدر بمليارات الدولارات سنوياً عن طريق الإمارات التي تعتبر بوابة لتهريب ثروات شعوب إفريقيا وخصوصاً السودان وليبيا الى أوربا.

من جهة أخرى يعول البرهان على دعم دولي، بعد حصوله على دعم أمريكي، بعد سنوات من العقوبات باعتباره من الدول الراعية للإرهاب، ونيّته التطبيع مع إسرائيل وانضمامه إلى اتفاقيات أبراهام، ويحظى بدعم القوى الإسلامية ومصر التي تعتبر السودان العمق الاستراتيجي لها.

الأزمة في السودان تتخذ أبعاداً متسارعة تزيد المخاطر وتجعله بمواجهة تحديات قاسية ومفتوحة على تطورات وسيناريوهات حرجة، رغم المساعي المبذولة لإنهاء هذا الصراع المسلح، ولكن ليس هناك مؤشرات لمعادلة صفرية تمنح طرفاً الخسارة وتمنح الطرف الآخر الربح، هو صراع عسكري على الغنائم المادية والسلطة، وسوف تستمر المعارك، لأن الجيش ينوي ضم ضباط قوات الدعم السريع وهؤلاء يعتقدون أنهم نخبة النخبة، وما فعله البشير أنه خلق انشطاراً بالعقيدة العسكرية وهم يتحملون تداعيات هذه العقيدة الانتهازية، والخوف من انزلاق السودان إلى حرب أهلية مفتوحة ودخولها إلى خط الصراع بين أطراف إقليمية ودولية.. وللحديث بقية.

العدد 1107 - 22/5/2024