آسيا الوسطى بين التجاذبات والتنافس

د. نهلة الخطيب:

باتت دول آسيا الوسطى السوفييتية سابقاً، منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن وإثر تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991، تمثل محطة تجاذب للقوى الإقليمية والقارية والدولية المهتمة بها والمتأثرة بواقع هذه المنطقة وإشكالياتها ومستقبلها أيضاً.

كازاخستان، وأوزبكستان، وطاجيكستان، وتركمانستان، وقرغيزستان، هي دول آسيا الوسطى أو آسيان، تمتد على رقعة جغرافية ما يقارب 400 كم2، وهي دول ليس لها حدود بحرية مطلة على بحار مفتوحة إلا على بحر قزوين تتشارك فيه مع روسيا وإيران وأذربيجان، إذ تجاور دولاً آسيوية عظمى كالصين وروسيا، ودولاً كبرى مؤثرة كالهند فضلاً عن باكستان، ودولاً إقليمية صاعدة كإيران وتركيا، على اختلاف توجهاتها وسياساتها التي تؤثر في حدود ليست قليلة في مجريات العلاقات والتحالفات لهذه الدول، إضافة إلى مصالح الدول البعيدة عنها جغرافياً، وينظر في سياق التجاذبات والاصطفافات الجارية والمستقبلية القريبة القادمة إلى هذه المنطقة، بسبب أهميتها الجيوسياسية من جهة، وشبكة علاقاتها السابقة والراهنة مع محيطها الآسيوي من جهة ثانية، بوصفها القلب الداخلي لأوراسيا وصلة الوصل بين أطرافها، إضافة إلى كونها أيضاً ذات أهمية اقتصادية بسبب الموارد الطبيعية الهائلة التي تتمتع بها تلك المنطقة، فهي تملك احتياطيات نفط وغاز طبيعي ذات أهمية لأمن الطاقة العالمي، إضافة إلى إنتاج اليورانيوم ما يقارب نصف إمدادات العالم منه والذهب ومعادن أخرى، فضلاً عمّا يعكسه استقرارها أو توتر أوضاعها على القارة الآسيوية عموماً.

شبّه بريجنسكي دول آسيا الوسطى إضافة إلى القوقاز وأفغانستان، بالبلقان الأوراسي، ووصفه بأنه فراغٌ خالٍ من القوة، مما يجعله مغرياً للجيران الأقوياء للتدخل والهيمنة على الإقليم، فاشتد التنافس القاري والدولي على هذه المنطقة بعد نيل دولها استقلالها مطلع تسعينيات القرن الماضي إثر تفكك الاتحاد السوفييتي وانعكاساته على خارطة العلاقات في آسيا الوسطى والقارة الآسيوية عموماً، إذ تمثل هذه الدول منطقة هامة للدول الساعية إلى توسيع وتعزيز إطار نفوذها القاري والعالمي، ففي الوقت الذي تتعاطى فيه تركيا مع العديد من هذه الدول بحكم الروابط التاريخية السابقة (العثمانية) كاللغة والدين والتقاليد، إضافة إلى مصالحها الراهنة والمستقبلية، تتعامل معها الصين بوصفها تشكل تداخلاً مع أقاليمها الغربية وجمهوريات ومناطق الحكم الذاتي الصيني المتشابهة ديمغرافياً وإثنياً وتبعاته أمناً واستقراراً أو توتراً وتطرفاً دينياً، لذلك سعت الصين إلى وجود عسكري وأمني مباشر مع المنطقة، وخاصة في طاجيكستان وقرغيزستان، وعلاوة على ذلك فإن موقع دول آسيا الوسطى يجعلها جزءاً من مشاريع العبور البري لمبادرة (الحزام والطريق) التي تربط الصين بأوربا والشرق الأوسط، إضافة إلى غناها بموارد الطاقة، فأصبح واضحاً استراتيجية الصين للهيمنة على هذه المنطقة عبر ربطها باتفاقيات ومشاريع مشتركة تسهم في تطور التجارة ونمو عائداتها على تلك الدول. كما تجاور إيران العديد من هذه الدول، بدءاً من دول بحر قزوين الغني بثرواته الطبيعية ومصادر الطاقة نفط وغاز، إلى بعض الدول التي تتكلم الفارسية، في الوقت الذي تتشابك فيه العديد من المصالح الهندية بأقاليمها المتعددة وأقلياتها المتنوعة مع العديد من هذه الدول، نظراً لقربها الجغرافي من هذه المنطقة وتأثر أقاليمها وبخاصة الشمالية الغربية بالتطورات التي تحدث فيها، مع العلم أن هذه الأقاليم شهدت تنافساً جيوسياسياً ودبلوماسياً بداية القرن التاسع عشر بين روسيا القيصرية والإمبراطورية البريطانية سمّي (اللعبة الكبرى)، وهو مفهوم مازال يطلق على الصراع بين القوى العظمى.

فيما روسيا الاتحادية في هذه اللوحة الفريدة تحرص أن تكون صاحبة النفوذ الأكبر فيها، وتستند إلى ماضي روابط عهدها القيصري في آسيا الوسطى، وإلى شبكة علاقاتها الاقتصادية الاجتماعية المتراكمة طيلة أكثر من سبعة عقود (الحقبة السوفييتية) مثلت فيها هذه الدول جزءاً من الاتحاد السوفييتي، ولا تزال تتكامل اقتصادياً واجتماعياً وحتى ثقافياً بروابط عديدة مع هذه الدول، فضلاً عن وجود أقليات روسية فاعلة وهامة فيها، ومصلحة روسيا في تطوير العلاقات مع آسيا الوسطى ما بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. وبالتالي في سياق التبدلات الجارية في القارة الآسيوية عموماً وبين دولها الكبرى، خصوصاً التي انتقلت قبل أكثر من عقدين من الزمن من حالة التنافس والصراع إلى وضعية التعاون والتنسيق الثنائي والجماعي روابط وتكتلات اقتصادية وسياسية مختلفة: منظمة شانغهاي للتعاون، رابطة الدول المستقلة ومعاهدة الأمن الجماعي، الاتحاد الجمركي الأوراسي.. الخ.

وازدادت أهمية آسيا الوسطى بُعيد الاحتلال الأمريكي الأطلسي لأفغانستان عام 2001 وإقامة الولايات المتحدة الأمريكية قواعد عسكرية مؤقتة لها في العديد من هذه الدول (طاجيكستان وقرغيزيا وأوزبكستان) بذريعة إيجاد صلة وصل وركيزة لوجودها العسكري في أفغانستان، الأمر الذي أثر في حدود ما على موازين القوى العسكرية في آسيا الوسطى، يضاف إلى الوجود العسكري الأمريكي قواعد وأساطيل حربية في دول آسيوية عديدة، كما ازدادت أهميتها بعيد الانسحاب العسكري الأمريكي الأطلسي من أفغانستان.

وبسبب هذه التجاذبات والاصطفافات القارية والدولية تزداد أهمية هذه المنطقة، وبالتالي تزداد أهمية واقعها الراهن ومستقبلها وطبيعة علاقاتها وتحالفاتها، في ظل هذه البانوراما القائمة ومستقبلها المتشابك إلى درجة كبيرة مع تطورات الأوضاع في القارة الآسيوية، والمتأثر أيضاً بشبكة العلاقات الدولية القائمة والقادمة التي تشكل فيها آسيا ووسطها جزءاً هاماً منها. وفي هذا السياق ينظر باهتمام مرة أخرى إلى الإمكانات والقدرات والثروات الطبيعية التي تمتلكها دول المنطقة مقارنة بالعديد من الدول الآسيوية الأخرى، وإلى علاقاتها التاريخية الآسيوية المتشعبة والراهنة أيضاً وتبعاتها، وإلى كيفية تعاملها مع الآخرين في مرحلة تبلور الروابط والتكتلات القارية والإقليمية وفعلها المتزايد على الساحة الدولية، وجهود هذه الدول للاستفادة من ميزاتها الطبيعية والجغرافية ومن تاريخها وواقعها ومستقبلها المفترض الذي تؤكده الكثير من المحطات الآسيوية والدولية المتتابعة، سواء في العلاقة مع وسط آسيا وصلة الوصل فيها أو مع القارة الآسيوية عموماً، كذلك انعكاسات مواقف دولها على العديد من التوجهات والمخططات للدول الكبرى عالمياً، التي تنظر إلى آسيا وقدراتها المتصاعدة بالكثير من الترقب والاهتمام أيضاً، ومع تغير المشهد الجيوسياسي العالمي وصعود الصين كمنافس للولايات المتحدة الأمريكية ومحاولات روسيا استعادة مكانتها الدولية، تصبح الكثير من الساحات الإقليمية ميداناً للتنافس بين القوى العظمى، وهذا سيطلق لعبة كبرى جديدة مسرحها دول آسيا الوسطى.

+++++++++++

  • لهذه المنطقة أهمية اقتصادية بسبب مواردها الطبيعية الهائلة، فهي تملك احتياطيات نفط وغاز طبيعي ذات أهمية لأمن الطاقة العالمي، إضافة إلى إنتاج اليورانيوم والذهب
  • تغيّر المشهد الجيوسياسي العالمي وصعود الصين كمنافس للولايات المتحدة الأمريكية ومحاولات روسيا استعادة مكانتها الدولية سيطلق لعبة كبرى جديدة في آسيا الوسطى
العدد 1107 - 22/5/2024