سعيد الكندرجي

بشار حبال:

اسم أبي مسعود السعيد، وأمي اسمها أمل، التقيا على قارعة الطريق فكان النصيب وحكمة القدر. وبكثير من البساطة واليسر تزوجا في بيت يقع على أطراف البلدة، بيت مثل كل البيوت التي تبنى وتعيش في محيط المدن، يسمّيها المتعلمون (أحزمة البؤس).

ولأن أبي مسعود وأمي أمل لا يملكان غير اسميهما كبوابة للحلم، فيجب أن يكون لهما حظ ما في هذه الدنيا.

لم تبخل عليهما الحياة فمنحتهما مولوداً هو أنا، فسمّاني أبي: سعيد، هكذا كان يتغنى باسمي ويحلم (سعيد مسعود السعيد) من أين سيهرب الحظ منا؟ نملك كل الأسباب للعيش الكريم!

مسعود، أمل، سعيد!

هكذا هجم أبي على الحياة بسلاح أسماء أسرته كرايات للأمل، لكن أبي الواثق من حظه كان يعمل كندرجياً على قارعة الطريق، عدّته كرسي صغير ومطرقة وسندان من الحديد وصندوق فيه بقية (الكركبة) ومظلة كبيرة يحتمي بها صيفاً وشتاءً.

كان يعمل من الصباح الباكر حتى مغيب الشمس دون كلل أو تهاون، في سعي حثيث لبناء أحلامه المتواضعة، ولكن بحضوري إلى الدنيا زادت أحلامه أحلاماً جديدة، كيف سيكبر سعيد ويتعلم وماذا سيصبح عندما يكبر، كل أحلامه انصبّت عليّ أنا سعيد السعيد، هكذا كبرت ودخلت المدرسة وبدأت أتعلم وأتفوق على زملائي في المدرسة والحي مانحاً أبي كل يوم جرعة إضافية من الآمال والأحلام.

لكن لعنة الاسم كانت تنمو مع تفوقي في المدرسة، دون أن أشعر بها أو يشعر بها أبي، أو لم نكترث للأمر في البداية، لكن اللعنة كانت ترسخ جذورها يوماً بعد يوم فاتحة ممرات صغيرة في مشوار حياتي، لم يكن أحد في الحي يناديني سعيد السعيد، كانوا يلقبونني سعيد ابن الكندرجي، وفي المدرسة سعيد الكندرجي، وأنا لم أجد أي غضاضة في الاسم بداية الأمر مثلما ننادي بعضنا نحن الأولاد بأسماء غير أسمائهم الأصلية، ابن الحداد أو ابن النجار أو ابن المسحراتي حتى إنه كان هناك ولد كنا ندعوه ابن الميت، أولاد ولا نعي لوثة الاسم وحيثياته، هكذا أصبح اسمي المعروف سعيد الكندرجي في الحي والمدرسة، حتى إنني نسيت اسمي الحقيقي يوماً بعد يوم.

تعايشت مع اسمي سعيد الكندرجي زمناً طويلاً، مغالباً حظوظي أحياناً وتغلبني أحياناً أخرى، ورغم أنني بدأت اشعر أن هذا الاسم قد بدأ يزعجني ويكدر علي في بعض الأوقات مزاجي، لكن ما حدث في صف البكلوريا في ذلك العام وذاك النهار كان شيئاً مختلفاً، كان صدمة مدمرة، ورصاصة قاتلة انغرست في قلبي. لن أنسى ما حييت ذلك اليوم وذاك الدرس الذي حدثت فيه مأساتي.

كان أستاذ الفلسفة يشرح لنا عن العلاقة بين طريقة التفكير وأدوات الإنتاج، وأن المنطق للإنسان العاقل تحدده أدوات إنتاجه التي يعمل بها. مثلاً:

راعي الغنم، أو البدوي تتحدد طريقة تفكيره بالمحيط الذي يعمل به، أي بوسائل الإنتاج الذي يمارسه، وهي في مثالنا الغنم والخيمة والأعشاب والصحو والمطر والكلب إلى ما هنالك من أدواته التي يعمل بها .. هنا في هذه اللحظة أطلق أحد الطلاب رصاصته في قلبي:

أستاذ.. الكندرجي كيف يفكّر؟ ههههه!

وعلّق واحد آخر: يعني.. يفكر بالصرامي!

انفجر كامل الصف بالضحك، حتى الأستاذ والجدران والمقاعد والسبورة والطباشير كلها كانت تضحك وصُوّبت عشرات العيون نحو هدف واحد ووحيد هو أنا، لا أعرف أين ذهبت روحي في تلك اللحظة وكيف سال الدمع من عيوني، بكيت بصمت المذنب المكلّل بالعار، لا أعرف لماذا بكيت ولم أحتجّ مثلاً وكأن الاسم قد لبسني تماماً، كانت رصاصة سريعة ومباغته، لئيمة دون أي شفقة، بكيت هكذا مثل الأطفال، ولم تنفع كل محاولات الطلاب والأستاذ في استرضائي على (النكتة البايخة).

في ذلك اليوم توقفت لأول مرة أفكر باسمي؟ هل أنا سعيد السعيد أم سعيد الكندرجي؟ هل رسم أبي خطوط حياتي كما يدق المسامير في أحذية العابرين، هل كان أبي يتحدى الزمان في اسمي، أم يتحداني في رسم صيرورة حياتي؟ هل كان يعوض في اسمي ما خسره في اسمه؟

في طريق العودة إلى البيت مررت بوالدي، جلست إلى جانبه بعد أن سلمت عليه ورحت أتأمله كيف يغرس مساميره بصبر وهدوء واحداً تلو الآخر، والأسى يأكل قلبي من اسمي ومن الدنيا، لكن قراراً كان نبت في رأسي يعفيني من كل أوجاعي مرة واحدة، ودون أي مقدمات ورأسي بالأرض قلت:

أبي سأترك المدرسة (وراقبت بطرف عيني ردة فعل والدي)، لكن والدي لم يكترث لكلامي وكأنه لم يسمع شيئاً. سأبحث عن أي عمل أتدبر به مصروفي وأساعدك قليلاً، الله يعطيك العافية لقد تعبت كثيراً وأصبح من واجبي أن أحمل عنك جزءاً من المصروف. صمت طويل كان ردّه الوحيد.. أبي ردّ عليّ أرجوك! بدأت أبكي ليس كما بكيت في الصف ولكن بعيون مفتوحة ترغب بالانتقام من اسمي ومن حالنا، كنت أبكي أبي الحالم وحلمي المكسور. تركني أبي حتى هدأت روحي، ثم ترك الحذاء الذي يعمل به متنهداً ومسح يديه بثيابه وهو يفكر، ثم التفت إلي وقال:

اسمع يا سعيد: سوف أتحدث معك كلمتين ولن أطيل الكلام عليك، أنت ذكي وتفهم جيداً ما سأقوله.

دكاني الصغيرة التي تراها بلا جدران ولا سقف هي تحت رحمة السماء، وهذه العدّة لن تهرب إلى أيّ مكان، لا تقلق كثيراً هي ستبقى لك متى شئت، لن آخذها معي إلى القبر، لكن يجب أن تعلم أهم ما في الحياة. صحيح أنني لست متعلماً مثلك، ولكني خبرت الحياة جيداً ويمكنني نصحك بأكثر مما تتوقع، لم يختر أحد أبويه ولا لونه ولا دينه، نحن أتينا إلى الدنيا برغبة الآخرين ومزاجهم وليس برغبتنا، لكن يمكننا أن نرحل عن الدنيا كما نرغب ونتمنى، ويمكن أن نختار لأولادنا ما حُرمنا منه. كل شيء ممكن يا أبي، الواحد منا إذا لم يحب أحلامه لن تتحقق، أنا اخترتك يا سعيد، وأنت حلمي الذي أحبه وسوف أدافع عنه حتى الموت، لن أشغل بالي بسبب انزعاجك وبكائك، إذا فكرت قليلاً بكلامي ستنسى سبب قهرك وتفكر كيف تنتصر على أسبابه. لا تهرب من المواجهة من أول سبب، الأمل يا بني يحتاج إلى الشجاعة والإصرار والثقة بالنفس، وأنت مثلما أراك وأحلم سوف تكون شخصاً عظيماً، أنا واثق يا أبي من كلامي، قلبي لن يخطئ في إحساسه، فكِّر بهدوء ثم قرِّر!

نظرت إلى أبي بحب واعتزاز، ثم فتحت كتاب الفلسفة على الدرس الذي أبكاني، مررت عليه بعيوني الدامعة، أغلقت الكتاب ورفعت رأسي.

 

العدد 1107 - 22/5/2024