هل نكون أسرى للمعلومات؟

يونس صالح:

يعيش الإنسان المعاصر في ظل فيض جارف من المعلومات، فقد أُنتج كمية منها، في الأعوام الثلاثين الماضية، أكثر مما أُنتج على مدى تاريخ البشرية، فهل المعلومات مصدر قوة أم عبودية جديدة؟

لقد تجسدت في هذا العصر مقولة (المعرفة قوة) ووصفت بأنها مصدر السلطة الذي يتميز بأنه يتزايد كلما استُخدم، على عكس مصدري السلطة السابقين في الظهور، وهما الثروة والقوة، اللذان ينقصان بقدر استخدامهما، وذلك أن استخدام البيانات أو المعلومات يفتح المجال أمام الوصول إلى معلومات جديدة. وليس أدل على ذلك في تزايد سرعة حركة المعلومات في الوقت الراهن، وتذهب بعض التقديرات إلى زيادتها بنسبة 100 مليار مرة في المئتي عام الأخيرة، بل ويتضاعف هذا الإنتاج كل أربع سنوات، ولقد أدت سرعة نقل المعلومات والوثائق كذلك عبر القارات إلى اختفاء العقبات التقليدية المتعلقة بالمسافات بين الدول واختلاف المناخ وطبيعة الاقتصاد وما إلى ذلك من عوامل مما يعرف بموت الجغرافيا، أو انتهاء مشكلة المسافة، الأمر الذي يمثل أحد أهم مكونات النظام الاقتصادي الصاعد والمعروف بـ(اقتصاد المعرفة) الذي يقوم بالدرجة الأولى على استخدام البيانات وقواعد المعلومات كأساس لإنتاج السلع والخدمات، وتخزينها ونقلها، ولاتخاذ القرارات المتعلقة بكل عملية من هذه العمليات. وبالرغم من أن العرض السابق يبدو أنه يقدم صورة لعالم مبهج تنكمش فيه المسافات، ويتزايد حجم الإنتاج وتتحقق فيه ديمقراطية المعرفة حيث المعلومات متاحة بلا حدود أمام الجميع، إلا أن هناك بالرغم من ذلك جانباً سلبياً أساسياً ينتج عن التعرض المتواصل لهذا الفيض الضخم من المعلومات، ذلك أن هناك حدوداً لحجم المعلومات التي يستطيع الإنسان أن يتعامل معها.

وفي ضوء محدودية قدرة الإنسان على التعامل مع الكم الضخم والمتزايد من المعلومات، أصبح العديد من الباحثين ينظرون إلى ذلك على أنه عبء معلوماتي يشكل مصدراً للضغط على الإنسان، وليس وسيلة مساعدة له. ويتزايد الإحساس بالمشكلة مع إدراك أن كمّاً ضخماً من هذه المعلومات ليس أكثر من معلومات منخفضة القيمة، وعديمة المصداقية في كثير من الأحيان.

ومن ناحية أخرى، فإن هذا الاتساع الانفجاري لنطاق المعلومات وتأثيرها على سلوك الأفراد، وعلى القرارات التي يتخذونها، يؤدي إلى تعقّد شبكة العلاقات السلبية التي تحكم الظواهر المختلفة، فحتى عصر التصنيع كان المتغير (أ) يؤدي إلى المتغير (ب) الذي يؤدي إلى المتغير (ج)، وذلك في منظومة خطية من العلاقات السببية. أما الآن فإن أي متغير قد ينتج عنه عدد كبير من المتغيرات الأخرى التي قد ينتج عن كل منها عدد كبير آخر من المتغيرات- من ناحية- بل ويمكن لهذه المتغيرات أن تتفاعل مع بعضها في حركة ديناميكية تعود بالتأثير حتى على المتغير الأول، وذلك في شبكة دائرية من العلاقات السببية. وبالرغم مما يصاعب هذا التفاعل المعقد من قدرة أفضل على رؤية الواقع، فإنه غالباً ما يكون مصحوباً بشعور بفقدان القدرة على التنبؤ بمسار الأحداث، مما يعيق عملية اتخاذ القرار. وهكذا لم تعد المتغيرات المختلفة والمعلومات المرتبطة بها خاضعة لتحكم شبكة ضيقة من المسؤولين الرسميين، بل تجاوز الأمر بهؤلاء إلى شبكة كونية من الجهات والخبراء والشركات والدول التي تؤثر اتجاهاتها تأثيرات يصعب التنبؤ الكامل بها. فما يسمّى بالعولمة ما هو – على الأقل جزئياً- إلا أحد جوانب قدرة المعلومات التي مهدت لنشوء كيانات تجاوزت الدول، وقد تؤدي إلى إعادة هيكلة سلطة الدولة كجهاز ضخم يحكم حركة وتعاملات الناس في قطاع معين من الأرض، ولكن السؤال هنا مرة أخرى هو: ما الذي سوف تؤدي إليه عملية إعادة الهيكلة أو إعادة نمط العلاقات السياسية في ضوء هذه الثورة المعلوماتية؟ وإذا كنا كأفراد لسنا واثقين مما نفقده كمعلومات قد تكون مهمة أو تافهة، فما الذي يجعلنا كشعوب أو ثقافات واثقين من جودة ما نحتفظ به أو من رداءة ما نتخلص منه؟ فضلاً عن السؤال عمن يقوم بتحديد ما هو جيد وما هو رديء، من عناصر ثقافية مختلفة، ووفق أي محك يقوم بهذا التحديد؟ إن اختفاء المعايير هنا وغلبة النسبية الكاملة تقودنا إلى أن أحد أهم إشكاليات ما بعد الحداثة هو انعدام المركز، هو التحدي الذي قد تشكل الاستجابة له أحد المعالم الرئيسية لمستقبل الإنسان.

إن نقطة البدء في التعامل مع هذا التحدي لا تتمثل في تجاهل المعلومات كما يدعي البعض، أو اعتبارها غير مهمة، ولا في تخفيض المعلومات المتاحة أو حتى حجبها عن الناس (الحل القمعي الرقابي)، ولكن نقطة البدء تتمثل في تطوير طريقتنا في التعامل مع هذه المعلومات. إن تنمية مهارات التفكير الإبداعي والتفكير المستقل هو السبيل لتطوير قدراته على تنقية المعلومات الواردة إليه للتخلص من المعلومات المغلوطة والملوثة وغير الضرورية، والفهم التركيبي للمعلومات الصحيحة، وهو ما أطلق عليه بعض الباحثين (الصحة المعلوماتية).

إن هذه الصحة المعلوماتية هي سبيل التحرر من عبودية المعلومات والانبهار الساذج بها وصولاً إلى القدرة على التفكير النقدي فيها، وهو طريق المشاركة في عالم يستشرف آفاقه بعض الباحثين باعتباره يمثل انتقالاً من عصر المعلومات إلى العصر المفهومي، حيث ينتقل الاهتمام من المعلومات كغاية، إلى المعلومات كمادة خام تؤسس لإطار مفهومي ورؤية حول مستقبل الإنسان.

 

العدد 1105 - 01/5/2024