رواية (حاكم).. تحاكم

أيهم حكيم:

كجنون ابن الهيثم، يصدمنا جنون يوسف زيدان في مطلع روايته (حاكم)، فيبدؤها كالتالي:

(عصر يوم الأربعاء المصادف في ظن الناس للرابع والعشرين من شهر تشرين الأول (أكتوبر) سنة ٢٠١٨ للميلاد المختلف في توقيته، المشكوك في حدوثه…).

فيذهب بعقلك بعيداً إلى قصة المسيح، ويدفعه دفعاً لقراءة التاريخ والبحث فيه، حتى يجد أجوبة مريحة على هذا الاختلاف وذلك الشك، رغم أن زيدان هنا لم يذكر سوى تاريخ بدء الحدث الأول في القصة.

وبهذا تبدأ الرواية محاكمتنا على إهمالنا للتاريخ، وتوجه أولى ضرباتها لعقولنا التي اعتادت الأخذ بقصصه المروية من ألسنة الآباء على أنها مسلّمات، وتحثّنا على إعمال العقل الراكد.

ولن ينتهي الشك بالتقاويم هنا، فالرواية تذكر فيما تذكر تغيير الحاكم بأمر الله الفاطمي ليوم الثلاثاء وجعله أربعاءً، مما يدخلنا في دوامة من الشكوك بشأن الأيام المقدّسة التي تمر علينا كل سنة فنحتفل بها أو نصوم أو نحج…، لكن بعد قراءة بسيطة للتاريخ نسأل: هل الجمعة حقاً جمعة؟! وهل تلك الأيام حقاً مقدسة؟!

يوسف زيدان الأستاذ الجامعي المتخصص في التراث العربي المخطوط وعلومه، والباحث النهم في التاريخ، يقوم هنا بمزج التاريخ بالأدب، ويعطينا مما تعلّم الكثير بأسلوب قل مثيله، وبلغة تعيدك إلى تلك العصور الغابرة التي تحدث عنها.

لكنه ينطلق من زماننا هذا، فيحكي لنا قصة (راضي)، الشاب الريفي الصعيدي المتدين، الذي يسافر من قريته إلى العاصمة القاهرة للعمل، فيقرر بعد مدة إكمال دراساته العليا في التاريخ بجامعة القاهرة، ويتعرف هناك على فتاة لها دينها الخاص، الأمر الذي لم يعهده راضي من أحد سابقاً، فصدمه وأخذ يذهب بعقله يميناً وشمالاً ويزرع فيه التساؤلات، التي تتحول إلى جدالات مهمة بينه وبين (أمنية) (الفتاة الحرة) تنتقل بنا إلى مكان جديد من المحاكمة حيث نسأل أنفسنا أسئلة راضي الساذجة والمشروعة – والسذاجة هنا من الجهل بالشيء – ثم نسأل أيضاً أسئلة أمنية العميقة والمتشككة، ونعيد التفكير في مصدر ما ورثناه من دين وأفكار ومعتقدات.

رغم ذلك تجمع الشابين قصة حب غريبة، فكل منهما خرج من بيئة مختلفة، ولكل منهما منظومة فكرية مختلفة، يقول الكاتب: (كان كل منهما يدور وحده في فلك، وقد بوعد بين المدارين. فكيف يلتقيان؟).

وهنا تتطرق الرواية إلى حقوق المرأة، واختلاف مفهومات الحب والزواج والعلاقة الجنسية وبهذا تخرجنا من دوامة وتدخلنا بأخرى.

ولا ننسى بالطبع جرأة الكاتب في التطرق إلى موضوع سفاح القربى، وحدوث تلك الحوادث في الماضي والحاضر، وإضاءته على العادات الرجعية التي تتبناها مجتمعاتنا والأفكار المتخلفة العالقة في رؤوسنا من دون رقيب ولا حسيب.

ولانتقاله بين العصرين أسباب، ولمقارنته تلك خبايا على القارئ اكتشافها، ورسائل عليه قراءتها وأخذ العبر منها.

كل هذا ولم ندخل بعد في لب الرواية.. التاريخ.

فبعد أن تتعلق بتلك الشخصيات، يذهب بك الكاتب عبر مخطوطات يقرؤها راضي عليك إلى عمق التاريخ، فينتقل بنا إلى قصة أخرى، بشخصيات أخرى، كالخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي وأخته ستّ الملك، والعالم العبقري الحسن ابن الهيثم، وهنا تبرز قوة الكاتب في البحث والتقصي، وكشف الأسرار التي غابت عنا.

وحتى نخوض في غمار أسرار الحاكم بأمر الله، نقرأ قصة مطيع، الشخصية التي خلقها الكاتب ليروي لنا عبرها قصة (منصور) الحاكم، فيشاركه مطيع في مجالس الدراسة أيام الطفولة، كما يشاركه اللعب والحديث، حتى إذا ما كبروا كان مطيع محل ثقة وصديقاً وفياً يعتمد عليه منصور في العديد من الأمور السياسية والشخصية، تغرق هنا بحياة الناس في أواخر القرن الرابع الهجري وأوائل الخامس، كيف كانوا يعيشون وبم كانوا يعملون، تشارك بجريمة بيع وشراء العبيد التي كانت حينها أمراً عادياً، ترى معاناة النساء والجواري، وتعيش قصة حب مطيع لأماني، وللأسماء في الرواية دلالات ومعاني، تتعرف بين صفحاتها على القرامطة الذين أوقفوا الحج لعشر سنين، تضيع بين قرارات الحاكم العجيبة حيناً، وتفهمها وكأنك كنت من أقرب مستشاريه في أحيان أخرى، فلا يرضى لك الكاتب أن تبقى تائهاً طويلاً، لماذا منع الملوخية؟ لماذا منع العمل في النهار وفرضه ليلاً؟ لماذا ضيق على المسيحيين وهدم كنيسة القيامة؟ لماذا قتل من قتل؟ هل كان نمروداً أم بسيطاً متواضعاً يتنقل على حماره بثياب متواضعة وفوطة عادية يضعها على رأسه بدلاً من عمامة السلطان؟ هل كان متعجرفاً أم فيلسوفاً حكيماً يترك قصره ليذهب إلى جبل المقطم قرب القاهرة ليجتمع مع إخوان الصفاء وخلان الوفاء فلاسفة عصره؟

ستجيبك الرواية عن كل هذه الأسئلة، ثم تنتقل إلى حكامنا لتحاكمهم وتعرض لهم مدى اهتمام منصور خليفة الإمبراطورية الممتدة من المغرب إلى جنوب العراق، ومن الشام إلى اليمن، بالعلم والعلماء، بنى بيت الحكمة، وكان له دكة اعتاد أن يجلس عليها ليقرأ ويبحث في تلك المكتبة العظيمة، كما أرسل للحسن ابن الهيثم العالم الفذ ليأتي إلى مصر فيفيد ويستفيد، وخرج لاستقباله شخصياً على أطراف القاهرة، وقدم له لاحقاً كل الدعم.

أما عن ابن الهيثم، فقد قصرت الرواية بحقنا في التعرف عليه أكثر كما أرى، فبعد انتظار طويل لظهور تلك الشخصية، تظهر بأواخرها، ولا يلبث قلبك أن يتعلق بها حتى تنتهي، رغم ذلك فقد ذكر الكاتب فيها أهم منجزات ابن الهيثم، وأورد مقدمات كاملة من كتبه، كما أظهر زهده وتواضعه.

سلبتني الرواية كلّياً، وسافر عقلي معها إلى القاهرة، تقمصت الشخصيات، نسيت اسمي ومن أكون حين كنت أقرأ تلك الصفحات، فأسلوب يوسف زيدان لا يترك لك مجالاً لتركها، كانت رحلةً رائعة ومفيدة حقاً.

رواية حاكم تأخذ فؤادك إلى مصر الفاطمية، وتسبح بك بين صفحات التاريخ وأسراره، تنير عقلك وتدهشه، تحثه على البحث والقراءة، تتمنى أن لا تنتهي حيناً، وتعجل في إنهائها حيناً آخر حتى يتسنى لك الاطلاع على كتب التاريخ التي أهملتها دهراً، فتذهب أثناء قراءتها وبعدها إلى حيث ترسلك، إلى تراثنا المنسي، إلى كتبنا المظلومة.

العدد 1105 - 01/5/2024