ما زالتُ عذراء

قصة قصيرة بقلم  بشار حبال:

كان عمري اثنا عشر عاماً يوم دخلت أول مرة إلى المدرسة عام 1947، وجلست على المقعد دون أي شعور بالخوف أو الرهبة، ولكن بروح من التصميم والتحدي، وسيزول استغرابكم بعد ان تسمعوا قصتي، وربما تعجبون بها مع قليل من المديح الذي أستحقه.

أنا لم أدخل إلى الصف الأول مثل كل الأولاد، كان أول صف دخلت اليه هو الصف الخامس! أجل الصف الخامس مباشرة بعد أن خضعت لاختبار من مجموعة من المعلمين، لأن أخي محمد الذي يصغرني بعام واحد قد علمني القراءة والكتابة والحساب في البيت قبل عام من ذلك، وما زلت أذكر يوم طلب مني أخي أن أحصي له عدد القنابل التي كانت تلقيها الطائرات الفرنسية على مدينتي حماة عقب الثورة التي اجتاحت المدينة، بأن أضع (شخطة) مع كل صوت انفجار حتى إنني بقيت أحتفظ بتلك (الكرتونة) إلى وقت قريب.

لقد خسرت فرصتي الطبيعية للالتحاق بالمدرسة بعمري الطبيعي، بسبب وفاة والدتي، وكنت كبيرة أخواتي، فكان لا بد من أن يحمل أحد ما الأسرة على ظهره، فكنت أنا (منتهى) ذلك الجندي المجهول الذي وقع الخيار عليه بحكم العمر والحيرة التي وقعنا فيها وحكمة الرب الذي جعلني (أمّاً صغيرة) لستة أفراد مرة واحدة، خلفي كان هناك أبي وأخي عدنان كبيرنا، وأمامي كان هناك أخي محمد وثلاث أخوات، الصغيرة منهن كان عمرها أشهر يوم توفيت والدتي، وكأن القدر منحنا تلك الطفلة بدلاً عن أمي، وقد ظلت متعلقة بثيابي حتى هذا اليوم الذي أحدثكم فيه وأنا بعمر الحادية والثمانين، أسميها الأن بخرفي (الدودة) لأننا ارتبطنا بمصير واحد دون أن يكون لنا أي خيار، تلك (الدودة) أختي اسمها ثريا؟ يا لهذا الاسم العظيم الذي اختاره أبي كي يشدني إلى أبعد مكان عن الأرض والحياة: الثريا.

لكن دعوني أشرح لكم لماذا سماني أبي (منتهى)، أبي الورع جداً والذي تنتمي عائلته إلى كبار رجال الدين في مدينتي، يوم ولدت كما تقول أمي وأبي كنت (كبكوبة ثلج) حتى أن عظامي يمكن رؤيتها من خلال جلدي بلونه الزهري الجميل، فتصورني أبي حورية سقطت عليه من حواري الجنة ومكاني الوحيد هو (سدرة المنتهى)، أرفع وأعظم مكان قريب من الله حيث يقيم الصالحون والصالحات، فأطلق علي اسم (منتهى) كتعويذة في مشوار حياتي الذي أحمله على ظهري مثل صليب على طريق الجلجلة.

بالعودة إلى المدرسة، مرّ الصف الخامس علي مثل شربة الماء ونجحت في فحص الصف السادس (السرتفيكا) بامتياز، ولم ينقص معدل علاماتي سوى علامة واحدة، وقد بكيت كثيراً على تلك العلامة التي خسرتها دون أن أعرف السبب، وبسبب تفوقي قفزت فوراً إلى الصف الثامن والصف العاشر طردته من طريقي في سعي حثيث للوصول إلى البكلوريا، أي أنني قطعت كل مشوار تعليمي في ست سنوات فقط، مع الاهتمام بالبيت وبإخوتي حتى أني كنت أدرس أحياناً بطريقة متفردة خلافاً للجميع مثل أن تقرأ لي جارتنا معي في المدرسة الدرس خلال تنظيف أواني الطعام أو مسح الارض أو الطبخ، هي تقرأ وأنا أصغي إليها وأحفظ الدرس، بعد البكالوريا غادرت إلى مدينة حلب وتخرجت في دار المعلمين وبتفوق بسنة واحدة.

خلال هذا الركض السريع تزوجت أختي الأولى ثم الثانية تباعاً، الأولى (آمنة) تزوجت رجلاً متوسط الحال لا همّ له إلا السياسة والنضال لتغيير العالم نحو العدالة والاشتراكية، وأختي الثانية (رزقية) تزوجت رجلاً برجوازياً وإقطاعياً وعاشت مثل الملكات، أما الأخت الثالثة (الدودة) فبقيت تتعلق بمركب حياتي حتى اليوم.

بعد أن تخرجت في دار المعلمين جرى تعييني في ريف مدينة الحسكة قرية (عامودا) وعلّمت صفوف المرحلة الابتدائية لمدة ثلاث سنوات، ثم انتقلت إلى قرية (تل الدره) بريف السلمية بمحافظة حماة، ومن بعدها علمت في مدينة السلمية، في سفري اليومي بين حماة وسلمية كنت أقوم بعمل آخر (سرّي جداً) فقد كنت أنقل تحت ثيابي منشورات للحزب الشيوعي السوري إلى مدينة السلمية وأسلمها لشخص محدد، ثم أذهب إلى مدرستي بكل البراءة المطلوبة، وفي الأخير عدت إلى مدينتي حماة بعد رحلة استمرت سبع سنوات.

في مدينة حماة تحسن وضعي وأصبح لقبي مدرّسة بدل معلّمة، وبدأت أدرّس الطالبات للمرحلة الثانوية قسم علم النفس والفلسفة والتربية الاجتماعية، وعندما افتتحت في مدينة حماة دار المعلمين كنت أول من انتقل إليها وصرت جزءاً من الكادر التدريسي، ولم أغادر مكاني حتى التقاعد من سلك التعليم.

رحلتي في العلم والتعليم فيها الكثير من المشقة والعذاب، وأيضاً كان فيها متعة التفوق والنجاح الدائم، وهو درس طويل تعلمت فيه الكثير في شؤون الحياة والناس، لكن صورتي لن تكتمل قبل أن أسرد عليكم بعضاً من التفاصيل التي رافقت رحلتي كتلميذة ومن ثم مدرسة وربة منزل ومناضلة في الشأن العام.

ما بقي من ذاكرتي من تلك اليوميات خارج المدرسة، اني كنت الفتاة الثانية في مدينة حماة التي خلعت المنديل الأسود عن وجهها في نهاية الخمسينات، في تحدٍّ صريح وواضح لقيم المجتمع، ولكم أن تتخيلوا في أحيائنا الشعبية البسيطة كم عانيت من هذا الأمر، ولكن إصراري وتشجيع أخويّ الشيوعيّين جعلني أصمد وأجر خلفي مئات النساء في مدينة حماة، حتى أننا عقدنا بإشراف الشيوعيين اول تظاهرة نسائية كبيرة في سينما الأمير بحماة تحت شعار التنديد بالحرب والدعوة إلى السلم العالمي، وقد حضرها ما يقرب من مئة وخمسين امرأة في مدينة تعتبر محافظة، وكانت هذه التظاهرة النسائية ربما الوحيدة التي جرت في المدينة حتى هذا التاريخ. في أوائل الستينات ومع موجة الاعتقالات للشيوعيين في سورية خلال فترة الوحدة مع مصر، اعتقل أخي عدنان وأخي محمد مثل المئات من الشيوعيين، وهرب زوج أختي أمنة، سُجن أخواي في سجن المزة رمز التوحش في فترة الوحدة، كان علي أن اذهب كل يوم أحد (عطلتي) لأزور أخوي حاملة معي كل ما يلزم للسجين من طعام ولباس وبعض المنشورات التي كنت أخفيها بطريقة خاصة في قلب الثياب، في يوم واحد أسافر إلى دمشق وأزور أخوي ثم أعود في المساء محطمة من التعب والإرهاق، وفي الصباح إلى المدرسة ثم هموم البيت وهكذا، بعد سنة أطلق سراح أخي الكبير وانسحب من الحزب والعمل السياسي، أما أخي محمد فقد أُطلق سراحه بعد ثلاث سنوات وخرج وهو يعرج من رجله اليسرى بسبب التعذيب، لكنه بقي في صفوف الحزب حتى أخذه الموت، لاحقتنا المتاعب من جديد، ففي عام 1964 صدرت قرارات التأميم وخسر زوج أختي البرجوازي (الذي كان يسندنا خلال فترة اعتقال أخويّ) كل ما يملك، فباع ما بقي لديه وهاجر إلى نيجيريا مع زوجته، وأنشأ هناك مزرعة حتى أخذه الموت دون أن أراه، وفي العام ذاته هرب من جديد زوج أختي (آمنة) أيضاً من البوليس إلى لبنان، فكان لابد من حمل همها مع أولادها، عام 1967 تم تشكيل الاتحاد النسائي السوري فكنت من السبع الأوائل اللواتي حملن المنظمة على أكتافهن عشرات السنين، وعام 1970 كنت أيضاً من السبع الوحيدات في مدينتي اللواتي التقى بهن رئيس الجمهورية خلال زيارته إلى المدينة، وقد طلبت منه على ما أذكر إنشاء جامعة في مدينة حماة، وعندما تشكلت رابطة الأمومة والطفولة التابعة للحزب الشيوعي كنت من الكادر المسؤول عن إدارة التنظيم الوليد.

لم أعد أذكر وأنا في هذه السن الكثير مما مر بطريقي أو مررت عليه، ذاكرتي تخونني ولكني أذكر أنني انتدبت إلى اليمن في الثمانينيات للتدريس، وبقيت لمدة عامين في عدن عاصمة اليمن الديمقراطي، في النهار أعلّم الأولاد وفي الليل أتعلم من البحر جمال الحياة.

سألني بشار، ابن اختي الذي ينقل مذكراتي إليكم: ألم تقعي في حب رجل أو أحبك أحد ما في رحلة حياتك الطويلة؟ أضحك وأقول له: نعم، تعثر الكثير بطريقي فقد كنت جميلة جداً (ألم أقل لك أنا حورية) وكل الرجال الذين شاهدوني أعجبوا بي، ولكني رفضت الجميع دون استثناء، كنت أعتقد أن حريتي أهم ما أملك، وخاصة أن هناك مازال من يحتاجني في البيت بعد وفاة والدي، إضافة إلى أنني كنت (شايفة حالي كتير)، لقد طلبني شاب مقتدر قبل أن أدخل المدرسة، وفي (عامود) تقدم لخطبتي دكتور مشهور هناك، وكذلك الأمر حصل في السلمية واليمن وحماة، ولكني كنت دائماً أرفض، لا أعرف ما إذا كنت مصيبة أم أنني أخطأت، ولا مجال للندم الأن، فما ذهب لن يعود وها أنا كما تراني وحيدة مع (دودتي) الوحيدة مثلي، لا أعرف، ربما أنا من أصابها بالعدوى.. أعيش أنا وثريا ما بقي لنا من أيام وحيدتين نجرح الوقت الباقي لنا بمسودات الأيام التي غادرتنا.

كل ما كنت أتمناه وأرجوه من الآخرين أن يقدروا جهودي في حياتهم ويحملوا شيخوختي قليلاً، لقد حضرت كل شيء لنهايتي كما هي عادتي، اشتريت الكفن وهو موجود في الخزانة، الناس في هذه الأيام تغيرت كثيراً! أولاد إخوتي غادرو البلاد بعد وفاة آبائهم، البعض هرب من الحرب إلى أمريكا وتركيا، والبعض الآخر هرب ليحارب إلى جانب الثورة، المضحك أنهم جميعاً من خارج البلاد يمارسون نضالهم، حتى الاتصال بالهاتف ضنّوا به علينا وتركونا وحيدتين.

لقد صدق أبي في نبوءته عندما منحني اسمي (منتهى) فأنا الأن نظيفة الجسد والروح، لم أسرق ولم أكذب ولم أؤذي أي كائن في كل حياتي، ما زلت عذراء في كل الاشياء ومن حقي أن أكون إلى جانب الرب في سدرة المنتهى.

حزيران 2017

 

العدد 1105 - 01/5/2024