العَلمانيَّة – أزمة المفهوم في العالم العربي

سعيد بشتاوي:

كان قدرُ العلمانية أن تنتشر وتشيع في أصقاع هذا العالم المتخم بالاختلافات ونظريات الحكم والسياسة، وقد ساهمت أوربا على وجه التحديد في عصرها التنويري بتحديد وجه الحياة السياسية الجديدة على امتداد هذا العالم، وأقصد بالحياة السياسية الجديدة هي الحياة التي خرجت من حكم الملكية والدين إلى فضاءات أكثر اتساعاً وأشد تفاعلاً ومرونةً من النظام الملكي الذي استفاد بشكل كبير من سلطة الدين كونه الخطاب الذي لا يمكن الشك فيه أو التعليق عليه ما يسهِّل سيادة سطوته على الكثير من فئات وطبقات الشعب وخصوصاً التي حصرت حياتها فيما تصدره الكنيسة من تعميمات وأحكام.

في خضم هذه الإرهاصات السياسية في أوربا بالقرنين التاسع عشر والعشرين، خرج ما يُعرَف بالعَلمانية، مبشِّرةً بوجه سياسي جديد للعالم الأوربي بداية الذي رسخ مدّةً طويلة تحت حكم الكنيسة – السلطة الدينية، ثم لسائر دول العالم على اختلاف جنسياته ونشأته وبيئته الجغرافية والفكرية، وكانت العلمانية آنذاك وحتى هذا اليوم جسر النجاة من التسلّط الديني على السلطة، فقامت على شعار أساسيٍّ وهو فصل السلطة الدينية عن السلطة المدنية أو السياسية، وهذا الشعار الذي ربّما مسّ الدين بوصفه قوة فكرية لها نفوذها في المجتمع أوجدَ بطبيعة الحال خصوماً لهذه الفكرة التي تجرّأت على الوضع السياسي والديني في حينه.

إنَّ العالم الأوربي وسائر العالم الغربي يتعايش منذ مدة زمنية ليست بقصيرة مع العلمانية دونما أيّ مشاكل أو صراع، وقد استطاعت هذه العلمانية أن تثبت وجودها في المجتمع الأوربي بشكل أو بآخر، بشكل سلمي باعتقادي، على عكس الشيوعية التي اشترطت الثورة والعنف أو ما يُعرَف بدكتاتورية البروليتاريا سبيلاً في تحقيق الانتصار وإنشاء مجتمع شيوعي اشتراكي، وما أريد قوله إن العلمانية فرضت نفسها بطريقة هادئة وسلمية، وعقلانية، وإن كانت قد اصطدمت مع فئات سياسية أو دينية فقد كان اصطدامها لطيفاً، وعلى ذلك فقد وصلت إلى سيادتها المجتمعَ الأوربي، وكانت تجربة هذا المجتمع مع العلمانية تجربةً ناجعة ناجحة أغرت الكثير من الشعوب لاعتناق هذا المذهب الذي سيخلّص المجتمع من أي سلطة دينية تحكم المجتمع بمنطلق ذاتي لا موضوعي.

لقد اُفتِتن العالمُ العربي ببريق العلمانية الجديد الذي سطع نوره من أوربا مؤذِّناً بغدٍ جديد للشعوب، ولكن ممّا لا شكَّ فيه أن العلمانية هذا المذهب الفتّان قد اصطدم بصراعات كثيرة في المجتمع العربي، وربّما تكون هذه الصراعات دموية في حين، وفي حينٍ آخر صراعات فكرية، على كلٍّ فإنّ العلمانية لم تكن في المجتمع العربي بتمام راحتها، بل كانت قلقة ومُزعزَعَة لدرجة أن مفهوم العلمانية أصبح موازياً للكفر والإلحاد في المجتمع العربي، وقد حُورِبت من جهات حكومية تارةً، ومن جماعات فكرية تارةً، وتارةً من قبل أفراد خمّروا فكرة العلمانية تعني الإلحاد في عقولهم بشكل فولاذي غير قابل للتغيير أو التطوير، ومن هنا نشأت أزمة مفهوم العلمانية في المجتمع العربي، وإذا ما ولجنا أكثر في البحث عن أسباب هذه الأزمة، فإننا نجد أن المجتمع العربي ما زال حبيسَ أمجاد الماضي من فتوحات وإنجازات إسلامية على العكس تماماً في المجتمع الغربي الذي تحرّر نوعاً ما من هذه الأمجاد وهي مثل أمجاد التاريخ العربي، إذ إن كلا المجدين يقومان على الدين، فأمجاد التاريخ العربي قائمة على الفتوحات الإسلامية، وأمجاد التاريخ الأوربي قائمة على حملات التبشير والحملات المعروفة عربيّاً وإسلاميّاً بالحملات الصليبية، ونجد أن المجتمع الأوربي لم يعد متمسِّكاً كثيراً بهذه الأمجاد باستثناء بعض التيارات اليمينية المتطرفة، التي شاهدنا نتائجها في عدم تقبّل التيارات الفكرية المخالفة لفكرهم، وفي قيامهم بمحاربة أي مساعٍ تسعى لاحتواء لاجئي الوطن العربي أو لاجئي أي دولة تضرّ باعتقادهم عرقهم وتاريخهم السامي، وقد لاحظنا ذلك في حادثة نيوزيلندا التي راح ضحيتها حوالي خمسين مصليّاً معظمهم من لاجئي الدول الإسلامية وقد ظهر أن المجرم ذو تفكير يميني وما زال متمسكاً بأمجاد التاريخ الغربي، وجملة قولي هنا هو عدم تطريف المجتمع الأوربي بشكل كامل، وعدم تسميح هذا المجتمع بشكل كامل، ولكن نسبة من أصبح يبتعد عن هذه الأمجاد العقيمة أكبر من نسبة من ما زال متمسكاً بهذه الأمجاد في المجتمع الغربي، وأمّا في المجتمع العربي فإنًّ الوضع مغاير تماماً فإن نسبة من يتمسك بهذه الأمجاد أكثر من نسبة من تحرّر منها، ومردُّ ذلك أن العنصر العربي وُلِد على هذه الأمجاد وتربّى وترعرع عليها، وعندما نضج ودخل مدرسته وجامعته فإنه لم يجد في هذين الصرحين العلميين وضعاً آخر، فما زال العلم العربي بمؤسساته العلمية كافة متمسّكاً وداعياً لإحياء هذه الأمجاد، ولكنّي لا أقلّل من قيمة وشأن هذه الأمجاد، ذلك أنها لبنة أساسية في التاريخ العربي ولا يمكن تجاهلها ولا حتى نسيانها، ولكن التمسك الأعمى بهذه الأمجاد أدّى بطبيعة الحال إلى نشوء أزمة مفهوم العلمانية، وعلى النّاحية الأخرى فقد هدّدت العلمانية كراسي الكثير من حكّام العالم العربي، الأمر الذي دفع السلطات إلى تمويل الكثير من المفكرين والأحزاب الدينية لمواجهة هذه الفكرة التي تبشِّر بزوال الوجوه التقليدية لأنظمة الحكم العربي، وفي الجهة المقابلة نجد أن بعض الأنظمة قد تفهّمت استساغة الشعوب العربية للعلمانية فقامت بعلمنة الدولة ولكن بإطار ديني، وهذه من أخطر الطرق التي واجهت العلمانية في العالم العربي، فهي علمانية الشكل، دينية المضمون، ومحالٌ أن ينجح كيان يقوم على تناقضين.

إذاً، وُلدت العلمانية في المجتمع العربي قلقة مزعزعة، وما إن رأت النور حتى وجدت نفسها بين حراب المتدينين والسياسيين الذين لبسوا عباءة الدين خوفاً من شيوع العلمانية وذهابهم في مهبّ الريح، كما أنّها وجدت نفسها في مجتمع لا يعرف معظمُه جوهر العلمانية ومعناها الحقيقي السامي. ومن ضمن الأسباب التي أنشأت أزمة مفهوم العلمانية في العالم العربي، فإنني لا يمكنني أن أغفل أن هناك من حارب العلمانية من قناعة ذاتية غير مرتبطة بضغط حكومي أو سياسي أو حزب ديني ما، ولكن ماذا كانت حجج هؤلاء الذين حاربوا العلمانية انطلاقاً من قناعتهم الذاتية، فقد رأوا أن العلمانية ما هي إلا حرب صليبية جديدة وغزواً خارجيّاً نصرانيّاً، وكان من أصحاب هذا الاتجاه كلٌّ من المفكر محمد عبده والأفغاني، كما رأيَا أنَّ طريق الخلاص من الجمود والانحطاط في المجتمع العربي لا يتمّ إلا بالعودة إلى الإسلام، ولهذه الأسباب وغيرها تنامى دور الجماعات الإسلامية من أحزاب وكيانات وأفراد استغلوا الخطاب الديني في هيمنتهم على عقول الشعوب العربية، فما كانت مواجهتهم للعلمانية سوى رد على العلمانية بوصفها حرباً صليبية جديدة. وهذا وغيره أدى بالشعوب العربية التي غلبها شيء من البساطة السياسية إلى تصديق شعارات هذه الجماعات كونها تستخدم النصوص الدينية في حملاتها ضد العلمانية، وكانت هذه الشعوب تجد الخطاب الديني خطاباً ذا خط أحمر غير قابل للنقاش أو النقد ومن هنا أيضاً أتت أزمة مفهوم العلمانية، ومن الجدير ذكره أنه بسببٍ من الحالة المعيشية السيئة للشعوب العربية فإن بعض الجماعات الإسلامية استغلت هذه الفجوة في حياة الطبقات الفقيرة وطوّعتها لتخديم أهدافها ومخططاتها فاستخدمت المال في سبيل نشر خططهم وشعاراتهم وأهدافهم والشعب العربي بطبيعته الفقيرة مالياً وفكرياً توجّه إلى ما توجّهت إليه هذه الجماعات وقال بما قالت به من تلحيد العلمانية وزندقتها.

في الواقع إنَّ كل هذا الصراع التي وقعت به العلمانية في المجتمع العربي لم تقع به في المجتمع الغربي، وبسبب من هذه الأريحية التي وجدتها العلمانية في المجتمع الغربي فإنها نشأت وانتشرت بشكل كبير، وهذا الانتشار أدى إلى أوربا الحديثة المعروفة اليوم بتطورها الصناعي والعلمي والفكري وحتى على انتشار الحريات والديمقراطيات؛ لذلك دعا فرح أنطون إلى ضرورة العلمنة باعتبارها جزءاً من اختيارات النهضة الأوربية في المجال السياسي وحرية الفكر والعقيدة وتتيح للفرد كرامة وكمالاً لا مثيل لهما، الأمر الذي أدّى بمحمد عبده للتصدي لفرح أنطوان فراح ينكبّ على دراسة التاريخ المسيحي الأوربي بمرجعية عقلانية لم يستعملها عند حديثه عن تاريخ الإسلام، الأمر الذي يشكّك في رأي محمد عبده عن العلمانية، فهو عندما نقدها ونقد التاريخ الأوربي استخدم المنهج العلمي والحجة والبرهان، وأما عندما دافع عن التاريخ الإسلامي كان دفاعه دفاعاً عامّاً بعيداً عن العقلانية وقريباً من التعصّب لمعتقده الفكري، وهذا التناقض الذي وقع به محمد عبده يبدو أنه كان مضطرّاً إليه؛ لأن الخصم دائماً ما يحاول أن يستعمل الحجة ليصل إلى تفنيد آراء خصمه الآخر.

والسؤال الذي يطرح نفسه عند سماع حجج المتأسلمين في مواجهتهم للعلمانية، إذا كانت العلمانية سبباً من أسباب انتشار الفوضى والفساد الأخلاقي والانحطاط، فلماذا هذه العلمانية كانت سبباً من أسباب تقدم أوربا وتطورها واحترامها للعنصر الإنساني وضمانها لكرامة وحرية الإنسان، وكفالتها لحرية الاعتقاد والتوجه السياسي، وإذا كانت العلمانية حرباً صليبية جديدة كما ادّعى بعض الإسلاميين فلماذا يستعملها الأوربيون ويتخذونها طريقة حكم وحياة، فهل من المعقول أن أوربا تغزو نفسها وتأتي لشعبها بالعلمانية التي تصد الفساد والانحطاط وهل أوربا تغزو نفسها بحرب صليبية على نفسها.

في الحقيقة، إن كل الأزمات التي واجهتها العلمانية في المجتمع العربي هي أزمات مفتعلة مغلّفة بحجج واهية تستند إلى الدين، وكل من تصدّى لهذا المفهوم فهو في محط شبهة وريبة ويحتاج إلى إعادة دراسة وإعادة نظر، ويبدو أن ما عانته العلمانية في العالم العربي كان مدروساً بشدة وبشكل منظم يخدم مصالح بعض الفئات السياسية، ولو كانت العلمانية كفراً لرأيناها تغلق أبواب الكثير من المساجد والكنائس في أوربا، ولو حذت فرنسا هذا النهج في إغلاق بعض المساجد وتقييد حرية المسلمين، ولكن لا يمكن أخذ النموذج الفرنسي مرجعاً لتحديد ماهية العلمانية، فالعلمانية في فرنسا لأسباب تاريخية ترجع إليها الدولة الفرنسية فإنها تواجه بعض الزعزعة والتقهقر بسبب بعض الممارسات الحكومية الفرنسية الخاطئة، فالعلمانية في إسبانيا أيضاً ولم تلاحق مسلماً، والعلمانية في ألمانيا ولم تلاحق مسلماً، والعلمانية في هولندا ولم تلاحق مسلماً، والعلمانية في بلجيكا وسويسرا والنمسا وسائر أوربا والمسلمون يعيشون فيها منعّمين سالمين غانمين مترفين، فإذا كانت العلمانية تحارب الإسلام فلماذا تحتضن الكثير من اللاجئين المسلمين الذين لجؤوا من حكوماتهم التي استندت إلى الحكم الإسلامي وإلى النصوص الإسلامية، وإذا كانت العلمانية سبباً للانحطاط الفكري والعلمي.. إلخ، فلماذا المجتمعات التي تحكمها الدول الإسلامية مليئة بالتخلف والجهل، والمجتمعات التي تحكمها العلمانية نراها متقدمة مزدهرة؟ ولا نريد أن نبقى نطرح أوربا مثالاً، فها هي ذي تونس مثالاً عربياً صالحاً للعلمانية، يعيش شعبها في حرية فكرية وإيديولوجية، والحياة السياسية فيها على أجمل وأحلى ما يكون، فمن أين لها هذا؟ أليس من العلمانية التي كفلت حرية المعتقد وكفلت المساواة والعدالة، ودعت إلى احترام الأديان على اختلاف أنواعها؟! ألم يحدث في البلدان الأوربية العلمانية وقفات احتجاجية ضد من أساء للرسول محمد، فكيف العلمانية تحارب الدين، ألأنها فقط دعت إلى فصل الدين عن السياسة!؟

18/2/2022

العدد 1107 - 22/5/2024