الأبوني |  قصة قصيرة

بشار حبال:

خدّوج هو اسم الدلع لخديجة، داية حارتنا وذاكرتها الحية، لا أحد ينادي عليها باسمها الحقيقي، الجميع يعرفها بخدّوج أو خدّوجة وهو الاسم الأكثر تداولاً، ومع الأيام نُسبت كامل العائلة إليها فيقال بيت خدوجة أو أولاد خدوجة. كل أولاد الحارة خرجوا إلى الدنيا على يدها، خفيفة الروح واليدين، طولها أقل من متر ونصف، ووزنها كما يقولون (شي ربع كيلو)، تفتقر إلى أي ملامح من الحسن أو الجمال، ترتدي ملاءتها السوداء بحكم العادة وتعض على أطراف العباءة كي يبقى وجهها مكشوفاً بشكل دائم، وتعوض عن كل ذلك بحلاوة الروح والمبادرة والحمية والاستعداد الدائم لخدمة الاخرين، كلمتها على رأس لسانها لا تخشى أحداً عندما تتحدث عما تحت الزنار وفوقه ، تضحك ويضحك الجميع معها لطيبتها ودماثتها،  وتملك أيضاً ذاكرة عجيبة تتذكر كل ولد ولدته وتحفظ الأشعار وأبيات العتابا والأمثال الشعبية، ولديها الكثير من القصص الطريفة  تروى للذكرى وللطرافة، وقد كان لمن أصبح فيما بعد أبي قصتان روتهما لي أكثر من مرة، وأكدهما أبي أيضاً، فيهما من الطرافة والشجاعة الشيء الكثير. سأتحدث عن واحدة منهما لغرابتها ليس أكثر.

الفاصل بين بيتنا وبيت خدوج ليس أكثر من جدار، كنت أتسلقه دائما كجزء من شقاوة الأولاد، ويستخدمه أبي كممر وحيد للهرب من الشرطة (الأمن)، ولم يتمكن عناصر الأمن ولا مرة واحدة من الإمساك به، لأن بيت خدوج يفضي إلى حارة أخرى شأنه شأن كل الأحياء الشعبية، بيوت متلاصقة أو تتراكب بعضها فوق بعض بطريقة عجائبية، ولكنها تجعل من الجميع أسرة واحدة في السراء والضراء.

في أحد الصباحات الباكرة، وهو الوقت المفضل لكل أجهزة الأمن، داهمت بيتنا عناصر الشرطة للقبض على أبي الذي دخل عالم السياسة من جديد، ولكن أبي كعادته قفز فوراً مثل النمر على الجدار الفاصل بين بيتنا وبيت خدوج، وبدل أن يهرب إلى الحارة الأخرى كعادته أو لسبب يشعر به هو حصرياً، مثل أن تكون الحارة الأخرى مطوقة، فتح باب غرفة نوم خدوج ودخل إليها.

هي لم تكن نائمة بل كانت تجلس بانتظاره، بسبب الضجيج الذي كان يحدث خارج غرفتها، وتعرف أيضاً بحكم تكرار التجارب لماذا هو دخل إلى غرفة نومها، (والحقيقة أن كل بيت خدوج مؤلف من هذه الغرفة وقبو تحتها سنتحدث عنه لاحقاً) فقال لها مذعوراً: الشرطة! وقبل أن يكمل جملته أشارت إلى فراشها ورفعت طرف الغطاء لتقول له بالإشارة ودون أي كلام: اختبئ هنا! فعل أبي ما طلبت منه لأنه لم يعد يملك أي خيار آخر، فحشر نفسه إلى جانبها، وهي جمعت ساقيها إلى صدرها كي تبني خيمة صغيرة لتخفي ما تحتها، واستعدّت لاستقبال عناصر الشرطة بكل الشجاعة التي تملكها.

حين وصلت الشرطة إلى بيت خدوج، ولمجرد أن فتحوا طرف باب غرفتها صرخت بكل قوتها: ولي وليييييييييييي! الله لا يوفقكم، يا كلاب يا عرصات، عم تفتحوا البواب ع الحريم! ولي وليييي! الله يلعن أبوكم وأبو الشرطة! وكرّت مسبحتها من الشتائم مع الولولة، وقبل أن يصحو عناصر الشرطة من هول المفاجأة، تركوا الغرفة مرتبكين وخرجوا دون أن يتمكنوا من التفتيش. نجا أبي في حدث لا يتكرر إلا في تلك البيئات التي تنتج خدوج.

تبدو خدوجتنا دون زوج أو أولاد، والأمر ليس كذلك فهي لديها العديد من الأولاد وزوج يشكل وحده قصة غريبة (وهي قصتنا)، لا أحد من جيلنا يعرف اسمه الحقيقي، الكل يدعونه بلقب (الأبوني). هو يعمل عتالاً يملك حصاناً وعربة يعتاش عليها، ينام على ذمة خدوج في القبو مع حصانه، ولا يفارقه لا في الليل ولا في النهار، يغادر بيته مع الصباح ويعود مساءً وبعد أن يتناول طعامه ينزل إلى القبو للصباح الثاني، لكن الأبوني كان يشكل في الحي مضرباً للمثل وعلامة فارقة، أو ماركة مسجلة باسمه لكل شخص غير نظيف (منشح)، فهو على ذمة زوجته لا يستحمّ إلا مرة واحدة في العام ويكاد لا يغسل يديه، يلبس الملابس ذاتها منذ زمن طويل ولا يبدلها رغم أنها فقدت ألوانها الأصلية وأصبحت بلون أسود لكثرة ما علق بها من أوساخ، يعيش كما يقولون (على مهلو) هكذا على تجلّي بساطة الأشياء، لذلك تركته زوجته هو وحصانه و (نشحه) وتفرغت للحارة، ومن طرائفها أيضاً أنها بعد موت زوجها بأسبوع وأحد كانت خدوج تنظف أمام باب بيتها، فمرّ أحد شباب الحي ومازحها قائلاً:

شو خدوج؟ أنت مانك بالعدة؟! لسّا ما صارلو المرحوم أسبوع!؟ رفعت رأسها وزنرت خصرها بيديها وقالت له: صار لي بالعدّة عشر سنين يا حقير!؟

دعونا نقفل قصتنا عن خدوج والأبوني، فقد مات كل المذكورين وارتحلوا إلى المجهول، ومن كل هذا السرد الطويل كنت أريد الوصول إلى جملة واحدة، أو فكرة واحدة وهي من دفعني لأن أكتب دون أن أفكر كثيراً.

عندما كنت صغيراً وحينما أعود إلى البيت من الحارة محملاً بكل أوساخها وأتربتها من الرأس وحتى القدمين، لأنني في معظم الأحيان حافي القدمين، كانت أمي تتأملني طويلاً وتقول لي:

أبوني.. رجعت؟! الله لا كان جابك!

العدد 1107 - 22/5/2024