الأمانة | (قصّة قصيرة جدّاً)

إسكندر نعمة:

لم تعد ندى طفلةً صغيرةً تحبو. كبُرَتْ ندى. أصبحَت تلثَغُ، تتكلَّمُ، تسيرُ على قدميْنِ سريعتين مُشاكسَتين.

كبُرَتْ ندى وكبُرَتْ معها شجرةُ التّفّاحِ المزروعةُ في حديقةِ المنزِلِ. تلكَ الشّجرةُ الجميلةُ الوارفةُ الّتي كان أبوها قد غرسَها في حديقةِ المنزلِ يوم مولِدَها. تفّاحةٌ ورديّةُ اللّونِ كانت تتدلّى من غصنٍ فتيٍّ. تتمرجَحُ بغنجٍ ودلالٍ بين أغصانِ الشَّجرةِ المُخضوضرة.

في كلِّ يومٍ تجثو ندى على رُكبتيْها أمامَ النّافذةِ المُطلَّةِ على الحديقة. تُداعِبُ التّفّاحةَ الشّهيَّةَ بنظراتِها. تسرُدُ معها حكاياتٍ وحكاياتٍ لا نهايةَ لها. لكنَّ التّفّاحة تبتسمُ مزهوَّةً في أَعاليها، تتلاوحُ مع موجاتِ الهواءِ الرّقيقة.. تمدُّ ندى يديْها عبرَ النّافذةِ، تمطُّ قدميْها وساقيْها. التّفّاحةُ بعيدةُ المنال تتضاحَكُ وتغمزُ بطيبةِ قلبٍ.. بين ندى والتّفّاحة حكايةُ شوقٍ وحبٍّ لا ينتهي. عجزتْ ندى. خرجَتْ من الغرفةِ، حاولَتْ تسلُّقَ الشّجرةِ ففشِلَتْ. ظلّتْ نظراتُها معلّقةً في الأَعالي.

بكتْ ندى. نشجَتْ بصوتٍ مسموعٍ. أقبلَتْ أُمُّها، قالَتْ لها: (لا أفهمُ شيئاً. ماذا تريدين؟!). أَشارَتْ ندى إلى التّفّاحةِ. ضحكتِ الأمُّ وقالت: (لم تنضج بعد).

أَمسكَتِ الأُمُّ بيدِ ندى وسارَتْ بها إلى الغرفةٍ.. تبعَتْهما شجرةُ التفّاح. دخلَت من البابِ الضيّق، وراحَت تدورُ في أرجاءِ الغرفةِ والتّفّاحةُ الشّهيّةُ الجميلةُ تزدادُ تألُّقاً وغُنجاً. تركتِ الأمَ الغرفةَ وسارَت بندى إلى غرفةٍ أُخرى. تبعتهما شجرةُ التّفّاح.. ندى تزدادُ بكاءً. ومن خِلالِ البكاءِ صدرَ صوتُ عِراكٍ وتدافُع.. الأبُ الشّهيد خرجَ من إطارِ الصّورةِ الكبيرةِ المُعلَّقةِ على الجدارِ. نظرَ إلى ندى مُبتسِماً، وراحَ بخطُواتٍ ثابتةٍ وأَمسكَ جذعَ شجرةِ التّفّاحِ بقبضةٍ فولاذيّة. مدَّ يدهُ بأَناةٍ وأمسكَ التّفّاحةَ الشّهيّةَ، فإذا هي بين أَصابعِه. التفتَ إلى ندى الّتي عرتْها الدّهشةُ وقدَّمَ لها التّفّاحةَ الورديّةَ الشّهيّةَ. أمسكتْ ندى التّفّاحةَ بكفّيْها وضمَّتْها إلى صدرِها.

وبينما كانت الفرحةُ والإشراقُ يغزوان وجهَ ندى وعينيْها، كانَ الأبُ الشّهيدُ قد اختفى، وغاب خلفَ ظِلالِ صورتَه الكبيرةِ المُعلَّقةِ على الجِدار.

 

العدد 1104 - 24/4/2024