خاطرة حول ظاهرتي التنكيت والتراسل عبر الهاتف المحمول
يونس صالح:
إذا كان مناسباً ومألوفاً لجوء الإنسان إلى التنكيت في ساعات اللهو والمزاح والدعابة، فإن الأمر الذي يثير التساؤل ويحرض على التحليل هو ذلك الحضور الغزير للنكتة في ساعات المحن والكوارث وأيامها وشهورها.
والظاهرة الجديدة الطريفة الأخرى التي اقتحمت نسيج حياتنا الاجتماعية اليومية، حَرِيّة بالاهتمام والتقدير والمعرفة والتحليل، وكل ما يفضي إلى تفسير شيوعها وانتشارها وتبريره وتعليله، وأعني بها ظاهرة التراسل عبر الهاتف المحمول، التي باتت عادة يومية وطقساً ضرورياً يمارسه الجميع من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي كل يوم.
وقد أحالت (المِسِجات) الكرة الأرضية بطولها وعرضها، إلى قرية عالمية صغيرة يتناقل الناس فيها ويتبادلون الأخبار والتعليقات والنكات والسباب والهيام والتشبيب، والتجارة والشجار والحوار والجدل، وكل أنواع التواصل وأشكاله وألوانه.
وإذا كانت جامعة الدول العربية العتيدة أخفقت في تحقيق أي نمط من أنماط الوحدة العربية، وبحّ صوتها من اللعلعة بشعاراتها وأناشيدها دون جدوى، فإن التلفون المحمول بقدراته وتقنياته الاتصالية المتطورة- تمكّن بسهولة ويسر من تحقيق الوصل والتواصل بين ديار بني يعرب!
وقد وسم العامة الرسائل الهاتفية بتسمية (المسجات_ جمع مسج) الإنكليزية، إلى حين أن يفتح المولى الكريم على مجمع اللغة العربية باسم (آخر) قاموسي يرقد بين طيات القاموس، ولا يعرف دربه البتّةَ صوب ذاكرة الحياة اليومية للمواطنين وألسنتهم كالعادة.
ما علينا، فإن هذه الرسائل الهاتفية عبر المحمول باسم (المسجات) باتت معروفة للقاصي والداني بهذا الاسم الحركي الشهير.
إن الحضور الكثيف لـ(المسجات) في حياتنا الاجتماعية اليومية بيّن وواضح، ولا أخاله يحتاج إلى برهنة وتدليل، ذلك أن تجلياته (تغرد) صباح مساء في كل بيت ومكتب وخيمة، وكل مكان يخطر أو لا يخطر على بالك.
ويمكن لنا القول إن الهاتف المحمول صار بمعنى من المعاني بمنزلة الصحيفة والمقهى والنادي والخاطبة ووكالة الأنباء والمأذون والبنك وما خفي أكثر وأشمل، لكن المولى سبحانه وتعالى أمرنا بالستر!
وإذا شاء لي القارئ الكريم اتخاذ مسوح (الواعظ واعتمار عمامته) يمكن لي القول إن خدمات الهاتف النقال سلاح ذو حدين. ففي مقدور المرء توظيفه للترويج والتواصل والتزاوج والتسوق والمزاح والإعلام والتوعية.. إلى آخر خدماته السوية، كما يمكنه في الوقت نفسه- إذا شاءت نفسه الأمّارة بالسوء والشيطنة والحماقة.. إلخ أن يجعله وسيلة سلبية قد تصل حيناً إلى حد خراب البيوت!
من البديهات التي باتت شائعة أن الإنسان وحده هو الحيوان الوحيد الضاحك، الذي يضحك على الآخرين، وعلى نفسه، فالضحك ظاهرة إنسانية ويرتبط عضوياً بالنكتة، والملحة والفكاهة، والدعابة، وكل الأشكال والأفعال المحرضة على الضحك والمثيرة له. والإنسان يحتاج دوماً إلى النكتة والسخرية والضحك لمجابهة أعباء الحياة اليومية ومعاناتها الصعبة، وبهذا المعنى فالنكتة ظاهرة إنسانية يمارسها كل خلق الله في جميع أرض الله.
صحيح أن هناك بعض الشعوب تتميز بأن الحس الفكاهي لديها أشد حضوراً وأكثر غنى من غيرها من الشعوب، بل إنك تجد أن بعض الجماعات، داخل الشعب نفسه، تتميز عن بقية الشعب بحسّها الساخر اللاذع وروحها الفكاهية البيّنة، ففي هذا السياق نفسه على سبيل المثال لا الحصر نجد أن أهالي حمص معروفون بالنكتة والسخرية أكثر من غيرهم في بقية المدن السورية.
إن حضور النكتة في نسيج الحياة اليومية الإنسانية لا يحتاج إلى تدليل، لأن تجلياته تلعلع في كل زمان ومكان، وحاضرة على طرف لسان كل إنسان، ويظهر لك بصورة واضحة أثناء الأزمات والهزائم. فعلى سبيل المثال خيّمت على مصر المحروسة إثر هزيمة حرب 1967 غيوم السخرية المرّة وهطلت عليها أمطار النكات الموجعة المعرّية لأسباب الهزيمة وأبطالها. ولو قيّض لآلاف النكات والتعليقات الساخرة الواردة في الرسائل الهاتفية من يجمعها ويصنفها ويبوبها، لشكّلت مادة دسمة للباحثين الراغبين في معرفة اتجاهات بوصلة الرأي العربي العام، وفي سبر نفسيته وشخصيته، وتحليل مزاجه، ومعرفة رأيه ورؤيته للأحداث والوقائع.
ولقد صار من المعروف أيضاً أن النكتة أصبحت من أفتك أسلحة الحرب النفسية، ومن هنا تجد أن العديد من أجهزة المخابرات في الدول تملك (ورشاً) لصناعة النكتة، باعتبار أن (التكنولوجيا) صارت صناعة حربية مدمرة يعول عليها في الحروب والمحن والأزمات، أولتها العناية الكافية، ولم تكتف بإشاعتها بين عامة الناس.. ومن يعلم، فقد تكون النكتة أحد أسباب هزائمنا.
وأخيراً لقد قال بول فاليري (1871 – 1945): (إن الذين يخشون النكتة، ليست لهم ثقة كبيرة في قوتهم).