عن الفرات

ريم عيزوق:

قد لا يربطني بنهر الفرات سوى ذكريات ضئيلة، لكنها كانت كافية لتزرع بداخلي كماً هائلاً من المشاعر المتناقضة اتجاه مياهه، تتراوح بين الخوف أحياناً، والحب والحنين أحياناً أخرى.

إن توصيف «ضئيلة» لهذه الذكريات ليس اعتباطياً، فأنا لم يجمعني بهذا النهر سوى لقاءين فعليين فقط، كلاهما تركا بداخلي أثراً مختلفاً عن الآخر، حتى عشت فصاماً لا منتهياً في موقفي منه، هل أحبه؟؟، هل أخافه؟؟ لكن دائماً ما كنت أواسي نفسي دائماً مستخدمة الجملة ذاتها «قد يكون هذا التناقض هو سبب تعلقي بهذا المكان».

 

اللقاء الأول…

في منتصف عام 2012 ، شاءت الظروف أن أمضي عامي الدراسي الحادي عشر في مدينة دير الزور، حتى جاء ذلك اليوم الذي قررنا فيه أنا ومجموعة من صديقاتي، أن نتسلل هاربين من الدوام المدرسي كما نفعل كل فترة وأخرى، لكن هذه المرة كانت وجهتنا إلى «الجسر المعلق» كبديل لشارع «سينما فؤاد».

كانت المرة الأولى التي أذهب فيها لزيارة هذا المعلم المهيب، والذي بُدء بنائه عام 1925 خلال فترة الانتداب الفرنسي، وبعد ست سنوات اكتمل هذا البناء الفريد من نوعه، لكن من كان يعلم أن «الجسر المعلق» الثاني في العالم بعد جنوب فرنسا، ستكون نهايته حزينة وتراجيدية بشكل موجع ومثير للسخرية بالوقت نفسه.

ست سنوات كانت كفيلة لنشهد ولادة هذا الجسر بركائزه الحجرية الأربعة، ويوم واحد كان كفيل بقلبه رأساً على عقب، ليصبح أسمه الجسر «المدنكَر» حسب تعبير أحد أصدقائي الديريين.

من كان يتخيل أن هذا الجسر الذي كان يستعرض عليه «عجيان» دير الزور عضلاتهم، برمي أنفسهم من فوقه مباشرة إلى النهر، أن يستعرض قواه هو الآخر ويرمي بنفسه، آخذاً معه كل هذه الذكريات، وكذلك رفات جثث العمال الذين يقال إنهم سقطوا داخل كتله الخرسانية خلال بنائه.

في أوائل أيار عام 2013 ، كان عيار هذا الجسر –كم قذيفة- والسلام…

آخر ما أذكره عن هذا المكان، أنها من المرات القليلة جداً في حياتي التي قلت فيها لنفسي «لو أنني ولدت ذكراً لكنت بالتأكيد سأجرب أن أرمي بنفسي من فوقه»، لم أعلم وقتها أن ليس فقط الجزء الأول من الأمنية كان مستحيلاً، بل حتى الجزء الثاني سيصبح مستحيلاً هو الآخر.

 

اللقاء الثاني…

«الموت من ورائكم، والموت من أمامكم»… كانت جملة كافية ووافية لوصف «معبار دير الزور» بأحد المنشورات الفيسبوكية، والذي من خلاله تجلى لقائي الثاني مع نهر الفرات.

المعبر يفصل بين ضفتين متساويتين في الوجع ومتعاكستين بأسبابه، كلتا الضفتين تحملان مصيراً مجهولاً، فقد تموت من الجوع على إحداها، وقد تذبح على الأخرى، أو قد يهوي فوقك صاروخاً أو تخترقك رصاصة قناص ما وأنت في المنتصف.

حين عبرنا النهر في أواخر عام 2014 ، قبل أن تشتد الأمور سوءاً أكثر مما هي عليه، وقد كانت المرة الأولى التي أصعد فيها قارباً خشبياً، وعددنا فاق سعة ذلك القارب الصغير، كانت تجلس بجانبي امرأة ترتدي عباءة وخماراً كسائر النسوة الموجودات وأنا بينهن، وعلى الرغم من الضجة المحيطة بالإضافة لصوت تموج مياه الفرات على جانبي القارب بعد كل تجديفه يقوم بها الفتى الصغير الذي يقود بنا القارب، استطعت بوضوح أن أسمع صوت حرف «السين» الصادر من بين شفتيها من أسفل الخمار، مستغفره لخالقها طوال الطريق، حينها سألت نفسي، أليس من واجب هذا الخالق، أن يطلب هو المغفرة منا على ما حصل وما يحصل الآن وما سيحصل حتى هذه اللحظة التي أقوم فيها بالكتابة؟؟؟

ذات مرة سألت والدتي الديرية الأصل عن أكثر شيء تتذكره عن نهر الفرات، وبعد أن شردت طويلاً، وكأن الكلام عجز عن الكلام، تقول: صوت الطيور.. وتغرق بعدها بصمت عميق.

لا أعلم ما الذي دفعني حينها أن ألقي اللوم على تلك الطيور التي لم تتحول لأبابيل، ترمي من كان له يد في تشويه معالم هذا المكان بحجارة من سجيل.. ربما لا أحد سواها يأبه للومنا هذا.

 

العدد 1104 - 24/4/2024