عيد اللغات الأم

عباس حيروقة:

حددت المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) يوم الحادي والعشرين من كانون الثاني من كل عام يوماً عالمياً للاحتفال باللغة الأم، وذلك لما يهدد بعض اللغات من خطورة انقراضها، داعية المجتمعات الحفاظ على لغاتها، لأنها عنوان لشخصيتها ورمز لذاتيتها الثقافية.

ولأن لغتنا الأم هي اللغة العربية بات لزاماً علينا التأكيد على أن ما تتمتع به من بلاغة وفصاحة وطلاقة وسلاسة ومرونة، ومن بذخ في المعنى وفي المبنى المفرداتي، إضافة إلى ذاك الكم الهائل من الاشتقاقات والمترادفات، من الأسماء والأفعال والحروف،الخ  مكنتها وما تزال من أن تحيا بكامل حيويتها وبهائها بين نظيراتها من اللغات الأخرى، بل وأن ترفل نوراً وضوءاً وذلك لامتداداتها التاريخية أيضاً التي عكست وتعكس حضارة ورقيّاً وأصالة. كيف لا وهي كما وصفها أهل الاختصاص بأنها لغة متصرفة؟!

المتأمل لحراك لغتنا الأم اللغة العربية يُدركُ ما مرّت به من أطوار وأدوار من الرقيّ والتنامي والتطور على أيدي أبنائها الخلّص الميامين من كتّاب وأدباء وشعراء وفلاسفة وفقهاء لغة ونحو وصرف، فبرّوا بها كأم حنون رؤوم، كما يدرك أيضاً ما مرت به من وهن وضعف وما ألحق بها من غبن وحيف على أيدي أعداء العقل والفكر والروح والجمال، وذلك عقب ما أُلحق بأبنائها، بأهلها حين خضوعهم لغير استعمار غاشم ولحقب ليست بالقصيرة.

عاشت لغتنا العربية ما عاشه أبناؤها من وهن وضعف وتشرد وتشرذم، وتجلّى ذلك حين محاولة الاستعمار فرض لغته على أبناء وطننا كلغة رسمية، إلا أن كل المحاولات باءت بالفشل، وذلك لإصرار الأبناء على التمسك بلغتهم من جهة، ومن جهة ثانية قدرة اللغة على استيعاب ذاك الكم الهائل من مفردات اللغات الأخرى مع قدرتها أيضاً على المحافظة على متانتها وحيويتها وفتوتها.

والمتتبع لقاموسنا اللغوي يُدرك كم أخذت لغتنا من اللغات الأخرى كالفارسية واليونانية والتركية والعبرانية والحبشية وحتى من السنسكريتية.

كما أعطت كل لغات العالم، والمتتبع أيضاً لمفردات اللغات الأخرى يدرك كم كنزت في تلا فيفها من لآلئ لغتنا الأم، لغتنا العربية.

كل هذا يعكس الطاقة الحيوية الإبداعية للغة العربية والعلاقة الخاصة والحميمية بينها وبين أبنائها.

والحديث عن اللغة أو الكتابة عنها هو حديث عن العالم، عن الوجودِ بأبهى مفرداته، حديث عن النبض، الروح، العقل، القلب الطافح بالحب للعالم كل العالم والمستوعب أو المتسع لكل آداب الأرض وفنونها وعلومها وفلسفاتها ومَنْ عليها.

إن الحديث أو الكتابة عن اللغة هو حديث وكتابة سيرة الإنسان الأول مذ وقوفه منتصباً على قدميه متأملاً لذاك الحراك الكونيّ المهيب، وخاشعاً أمام  حالات السكون الصارخ في ثواني الغلس الأولى، إلى حالات الهلع والخوف قبالة أصوات رعد وريح ولمعة برق أخّاذ، وعدوه كما أسلفنا تجاه كهف قريب، ومن ثم ممارسته لفعل التأمل والتفكر بتلك الهالات النّوريّة المنبعثة من قمر في عتمة الليل، وحبوّ الشمس تجاه بطن السماء، كل هذا وذاك فجّرَ عنده أو لديه الصرخة الأولى: (النطق) معبّراً من خلاله عن حالاته وحاجاته الروحية والنفسية والجسدية، بالنطق، بالصراخ من جهة وبالتقليد وبالإشارة مستخدماً أطرافه ومرونة جسده ليعبّرَ للآخر عما يُقلقه أو يُرعبه أو يُبكيه أو يُضحكه من جهة أخرى.

ومن بدهيات البحث هنا أن نذكر أن اللغة مرّت بمراحل وأطوار نمو واعتلال شأنها شأن أي الكائنات، وهي الأقرب للإنسان بجلّ حالاته مع فارق التكثيف لمفهوم الزمن الميقاتي والاجتماعي، فالإنسان مثلاً في مراحله الأولى يبدأ ضعيفاً هشّاً، فينمو ويشكّل علاقات خاصة في إرهاصاته الأولى مع العالم المحيط من خلال حركات وأصوات، ومن ثم يبدأ بترجمتها وتطويرها إلى إصدار أصوات غير مفهومة الحروف ليتطور إلى نطق حرف فحرفين فثلاثة مجتمعة إلى مفردات وجمل وقدرة عالية على الكلام،

وتستمر وتستمر مرحلة الكلام أزماناً، لينتقل هذا الكائن المهيب (الإنسان) إلى فعل الكتابة والتدوين.

العدد 1104 - 24/4/2024