وهم الموضوعية
د. أحمد ديركي:
يحكى الكثير عن نمط الإنتاج الرأسمالي وعن التشكلات الطبقية فيه ومدى الصراع ما بين هذه التشكلات الطبقية، التي تمثل مكوناته الأساسية.
انعدام تشكّل هذه الطبقات وصراعها يعني انعدام وجود نمط الإنتاج الرأسمالي.
كما يوجد آلاف، وربما أكثر، من الدراسات حول هذه المرحلة التاريخية من تاريخ الجنس البشري، ولكن على الرغم من كثرتها إلا أن جميعها ينبع من مدرستين فكريتين لا ثالث لهما، وهما المدرسة الفكرية الماركسية، والمدرسة الفكرية الرأسمالية، طبعاً ولكل مدرسة من هذه المدارس تفرعاتها المتعددة. كما لكل تفرع تسمية.
ينجم التفرع عن التطورات التي تلحق بالمدرسة الأم بعد فترة من الزمن. فالمجتمع في حال دينامية مستمرة ناجمة عن الصراع بين طبقاته، وهذا ما يولّد ديناميته. والدينامية تولّد أموراً مستجدة ويدخل هذا المستجد على المدرسة الفكرية ليضاف إليها.
لأن النمط المهيمن حالياً على الكرة الأرضية هو نمط الإنتاج الرأسمالي، ويتكون مجتمع هذا النمط من طبقتين أساسيتين هما طبقة البرجوازية وطبقة البروليتاريا (الطبقة العاملة)، ويمثل الصراع بينهما جوهر دينامية هذا النمط وصولاً إلى مرحلة القطع التاريخي معه. وبالتأكيد هناك فئات ضمن كل طبقة من هاتين الطبقتين، وهذه الفئات متصارعة فيما بينها ضمن كل طبقة وفي الوقت نفسه متصارعة مع الطبقة الأخرى. أمر يؤدي إلى تشابك العلاقات الصراعية ما بين الطبقتين وما بين الفئات في كلتا الطبقتين.
من خلال معرفة (قانون) تشابك العلاقات الصراعية يمكن معرفة التعامل معه، وإلا أصبحت كل مقاربة لطبيعة تشابك العلاقات الصراعية مقاربة لا منهجية، بمعنى مقاربة تصلح للخطابات الشعبوية القائمة على (دغدغة) مشاعر الجمهور ورفع مستويات تشويه وعيه ليبقى مقيداً بسلاسل العبودية غير المرئية لهذا الخطيب أو ذاك.
ولمعرفة (القانون) الحاكم لتشابك العلاقات الصراعية، لا بد من العودة إلى إحدى المدرستين الفكريتين، بكل تفرعاتهما، والتخلي عن رهاب الإعلان مجاهرة عن الانتماء إلى إحداهما، والتلطي ضمن وهم (الموضوعية) لإخفاء الانتماء الفكري.
انطلاقاً من وضوح المدرسة الفكرية يمكن عملياً وعلمياً مقاربة (إن البرجوازية لا تعيش إلا إذا أدخلت تغييرات ثورية مستمرة على أدوات الإنتاج، وبالتالي على علاقات الإنتاج، أي على العلاقات الاجتماعية بأسرها) (البيان الشيوعي، ص. 54). فمن انجرف، حالياً، مؤيداً وبشكل أعمى التقدم التكنولوجي المتسارع عليه أن يعود إلى مدرسته الفكرية، إن كان لديه مدرسة فكرية، ليعي إلى أين تذهب البشرية في مسيرة التطور التكنولوجي تحت مظلة نمط الإنتاج الرأسمالي، وايجاد سبل تحرر البشرية من أصفاد عبوديتها، غير المرئية، لتصل إلى ما تطمح إليه لا إلى ما تطمح إليه الطبقة البرجوازية.