حينَ يكونُ الموتُ وراءَ الباب
عباس حيروقة:
لقد قيل الكثير في الموت، في فلسفته، أسئلته الكبرى.. ألغازه التي حيّرت العلم والعلماء والأدباء والمفكرين، فعجزوا عن حل بعض أسئلته، بل على العكس كلما حاولوا إيجاد بعض جواب تعود وتطرح أمامهم أسئلة وأسئلة.
ونحن كسوريين وعلى أرضنا المقدسة الطهور نرى أن الموت امتد وتطاول واستطال ليطول كل شيء تقريباً..
ففي سنواتنا العشر الأخيرة بات مألوفاً جداً وقريباً جداً.. نراه في كل مكان تحت الوسادة.. وراء الباب وأمامه وراء النافذة في كل شارع.. على الشرفات.. على ضفة نهر.. وسط بحر.. على مقاعد الدراسة..
إنه الموت الذي بدّلنا.. بدل رؤانا ومفاهيمنا تجاهه ولم يتبدل..
نعم، لم يكن للموت الطعم ذاته.. الوقع.. الاسم والرسم.. الصدى.. المراسم والتبعات والتداعيات في نفوسنا كما هو اليوم.
كنا قبل سنوات الحرب ما إن نسمع، وكغيرنا من السوريين، بوفاة أحد أبناء قريتنا على سبيل المثال ونحن في حلب حتى نهرع دون تردد للمشاركة لا في العزاء وحسب بل في الدفن إن استطعنا سبيلا ونبقى لأيام.. وكنا نسافر إلى محافظات بعيدة لمواساة صديق أو زميل بوفاة قريب له.. وكنا وكنا.. الخ
ولكن في سنوات الحرب القذرة التي أتت على الأخضر واليابس ودمرت ما دمرته وشتت وهجرت أبناء وإخوة لنا وأخذت شبابنا بعمر الورود ودمرت بنانا التحتية و..و..الخ، سنوات الحرب هذه جعلت للموت غير طعم وغير لون وغير رسم.
موت ألفناه جداً فأصبح قريبا جداً بيننا يأكل من طعامنا ويشرب من شرابنا..
موت نال منا جميعاً وسكن كياننا جميعاً وامتد وامتد إلى أن أصبح نحن وأصبحنا هو.. وهاهم أبناؤنا الشهداء يفتحون نوافذ النور ويبتسمون لنا.
الموت الذي احتلنا فحولنا إلى مجرد صور وحسب تعلّق على أعمدة الكهرباء، وعلى جدران المدارس والمؤسسات الرسمية وعلى جدران البيوت الحزينة التعبة،
الموت الذي تجلى بغير وجه وبغير اسم.. أتى حريقاً شبّ في حقول القمح.. في الغابات.. في قرانا..
أتى بوجه تجار وفجار سُلّطوا على رقابنا الغضة وعلى رقاب أبنائنا الصغار.
أتى بوجه احتلال اقتطع من أرضنا.. نبضنا.. دمنا وامتص وما زال نور عيوننا (أمريكا – تركيا).
أتى.. وأتى فأنهكنا وبدّدنا..
وآخر ما أتى على هيئة وباء مقيت انتشر بيننا انتشار النار في الهشيم وبدا يفتك بالصغير وبالكبير..
إنه وباء (كورونا) الذي زاد في تبدل مفهوم الموت وطقوسه..
الوباء الذي لم يحدّ من الآلية المعهودة في استقبال صديق وقريب وابن غالي (مصافحة – ضم – تقبيل) وحسب، بل حدّ وبدّل في آلية الوداع الأخير لبعضنا.
وهذا ما زاد من قسوة الموت ومن وحشته وغربته ومرارته.
بل ومما يزيد القهر قهراً أنه ألغى ما كان سائداً عبر تاريخ البشرية من مراسم دفن وعزاء.. إذ لم يعد في مقدورنا تقديم التعازي والمواساة بفقيد ما.. كم هو مؤلم لأهل الفقيد من أن يحرموا من هذه السمة الإنسانية النبيلة (المواساة.. العزاء) بسبب هذا الوباء وكم هو قهرهم مضاعف ومهيب!
كم مرة نموت أو متنا ونحن نفقد من نفقد من أعزاء!
كم مرة نموت من القهر والجوع والبرد ونحن عاجزون عن فعل ما يمكّننا من الشهيق النظيف النظيف.. كم نحن أموات وكم .. كم يا موت؟!