نحو فكر جديد

يونس صالح:

يجتاز الفكر عندنا في لحظته الراهنة أزمة تثقل بمناخها ومظاهرها ونتائجها على كل جوانب حياتنا، ولقد تعددت مساهمات تعليلها ورصد مظاهرها، واقتراح سبل تجاوزها، وعندما كتب طه حسين عن الفتنة الكبرى في مرحلة صدر الإسلام، لم يكن يدري أنه سجين زمن حديث- هو عصرنا الراهن- تتجدد فيه روح الفتنة بين الفرق السياسية والمدارس الفكرية المختلفة، وتتبدد قواها وطاقتها في خضم الصراعات العنيفة.

وخلال أكثر من ثلاثين عاماً شهدنا فصولاً متعددة منها، ونشهد اليوم استمراراً لها، فماذا كان حصاد ذلك؟ كان الحصاد سلسلة من الهزائم والانتكاسات، نتيجة تغليب التناقضات الثانوية على التناقضات الاساسية وتأجيج نيران الصراعات الجانبية والزعامية على الخط الرئيس للنهوض والتقدم.

ومنذ صعود المد الإسلامي السياسي خلال العقود الأخيرة صرنا نشتمّ روح فتنةٍ وحرب أهلية تطل برأسها، وتدقّ طبولها، حيث تضيق مساحات الحوار وتتقلص دوائر التسامح الفكري والمذهبي، وترتفع نبرات لغة التهديد والوعيد لدى بعضهم، ولعلنا نلمس ذلك في بعض التصريحات والكتابات التي تقول بأن شريعة الله لا يجوز بل لا يحل لنا أن نعرضها ليؤخذ عليها رأي البشر أياً كانوا بالموافقة أو عدم الموافقة، وإنها نزلت لتطبَّق وليلتزم بها المسلمون، ومن يرفضها أو يعتقد أنها لم تعد تصلح في زمننا الحالي يعتبر مرتداً إذا كان مسلماً، ويستتاب وإن لم يتب يقام عليه حد الردة، وهنا يتضح على الفور طابع التهديد والوعيد لكل من يجرؤ على طرح موضوع الشريعة الإسلامية للنقاش في تفاصيله وآلياته، باعتباره موضوعاً خارج دائرة اجتهاد البشر، وأن كل من يناقش في مدى صلاحيتها يعد مرتداً ويقام عليه حد الردة.

ولعل السبب المباشر لذلك هو الافتتان بالقوة، والشعور بإمكانية انتصار الفكر الإسلامي، وأن تحقيق ذلك يمرّ حتماً بتصفية الفكر المضاد، وليس من خلال الحوار ومقارعة الحجة بالحجة، بل من خلال التجريم والتكفير والتأليب، بهدف المصادرة واغتيال الفكر المضاد.

ولعل الدرس الذي يجب استخلاصه من ثنايا التاريخ، أن اغتيال الفكر والمفكرين لا يخدم قضايا النهضة والتقدم، لأن التناقضات والخلافات يفرزها الواقع الموضوعي نفسه، فإذا نجح البعض في اغتيال ذلك المفكر أو ذاك الفنان، وفي مصادرة هذا الفكر أو ذاك أو منع تداوله، فهل يمكن في نهاية الأمر اغتيال الواقع؟

ولذا فإن أسلوب إدارة الصراع السياسي والفكري يعدّ همّاً أساسياً من هموم مستقبلنا.

هناك الخطاب والمشروع الليبرالي، وهناك الخطاب والمشروع الإسلامي وهناك الخطاب والمشروع القومي، وهناك كذلك الخطاب والمشروع الاشتراكي، وكلّها تعبّر عن قوى وتيارات في مجتمعنا، يصعب إلغاؤها بقرار، أو اعتقال هذا الفكر أو ذاك، كما دلت على ذلك التجارب الحية الممتدة منذ الثلاثينيات من القرن الماضي حتى يومنا هذا، ولكن أزمة الصراعات الفكرية والسياسية الراهنة لدينا تكمن في عدد من المثالب، أبرز بعض ملامحها حسب رأيي:

لعل من أهم آفات الفكر السياسي الراهن عندنا (على اختلاف مذاهبه) هو التركيز على المنطلقات المذهبية والعقائدية، وإعادة ترديدها بصياغات مختلفة، والاقتصار على التحليق في الفضاء الإيديولوجي الذي يعد بمثابة نوع من الفضاء الخارجي، دون محاولة ملامسة الواقع بمشاكله وتضاريسه المعقدة وطرقه الوعرة، ولذا فإن جزءاً من الأزمة الراهنة للفكر السياسي، التي تحول دون وضوح الرؤيا، لدى صاحب الفكر ولدى خصومه السياسيين عندنا، هو الاقتصار على ما يشبه (الوعظ والإرشاد) دون الاهتمام بترجمة المواقف إلى فكر عملي وتنفيذي يتعامل مع الواقع بشكل مباشر وحيّ، ومتفاعل معه بشكل خلاق.

ولعل تلك الخاصية التي تطبع الخطاب السياسي للقوى السياسية لدينا (على اختلاف مواقعها الإيديولوجية) كافة، هي التي تجعلها تحتفظ بطبيعتها (الحلقية)، ولا تستطيع أن تكسر حاجز العزلة الجماهيرية لكي تصل إلى عامة الناس وبسطائهم- على اختلاف مراتبهم- دون (ديماغوجية) ودون تدليس فكري يصل أحياناً إلى حد الشعوذة.

فالجماهير من ناحية، والقيادات التنفيذية (التكنوقراطية والبيروقراطية) من ناحية أخرى، لا تستهلك النظريات المبدئية، ولا تتعامل مع أبجديات الفكر المجرد، بل هي تريد أن تسمع ردوداً، وترى حلولاً تفصيلية للمشاكل والأمراض التي يزخر بها واقعنا على الجبهات كافة، بحيث يمكن الربط بين البدايات والنهايات.

ولعلنا لا نغالي كثيراً إذا قلنا، إن بعض القوى السياسية التقدمية التي رفعت شعارات التأميم في الماضي، لم تكن تملك دراسات حول حجم المنشآت في القطاعات المختلفة، ومدى الصلاحية للتأميم، وفي أي مرحلة يصبح القرار حكيماً وسليماً! وعندما صعدت تلك القوى إلى السلطة لم تجد لديها دليلاً أو هادياً يوضح كيفية وضع شعار التأميم موضع التطبيق دون تخبط وإهدار للموارد، بل في بعض الأحوال لم يكن لديها مجموعة الإحصاءات الاولية التي تسمح لها بالحركة السليمة الفاعلة.

وبالمثل نجد أن القوى السياسية (الليبرالية) التي ترفع اليوم شعار نقل الملكية للقطاع الخاص، لم تبذل الجهد الكافي لمعرفة كيف يمكن تطبيق مثل هذا الشعار في ضوء الأوضاع التاريخية الموروثة، وفي ضوء إعادة رسم الحدود بين دائر الملكية الخاصة ودوائر ملكية الدولة في كل قطاع وفرع من فروع النشاط الاقتصادي على حدة.

كذلك عنما يرفع البعض شعار الإسلام هو الحل لا نجد شروحاً وتفصيلات توضح كيفية تشغيل النموذج الإسلامي، بصيغته المذهبية النقية، في ظل التضاريس الراهنة لمجتمعنا التي تختلف تمام الاختلاف عن مجتمع (صدر الإسلام).

وفي ظل هذا الغموض، وذلك المستوى من العمومية في الطرح، كيف نتوقع للفكر عندنا أن يتقدم وأن تزول عمليات الخندقة الفكرية التي نعيشها اليوم؟

إذ إنه عندما يصل الطرح والنقاش إلى مستوى الحلول العلمية، وعندما تجري ترجمة الفكر، أيّاً كان، إلى فكر تنفيذي تتسع آفاق الرؤية، وتتضح مساحات الحركة الممكنة، وبالتالي نقاط الالتقاء بعيداً عن روح الخندقة الفكرية التي تغذيها الأفكار المذهبية المجردة، حيث يتضخم حجم الخلافات بعيداً عن أرض الواقع وتغذيها النزعات الثأرية الموروثة في الماضي.

ويرتبط بهذه الفكرة ضرورة الانتقال مما يمكن أن نسميه الشعاراتية إلى الاقتصار على ترديد الشعارات العريضة المدوية دون مضمون عملي محدد فق إلى (البرنامجية) التي تطرح حلولاً وتصورات عملية محددة، فالمتأمل في الكتابات السياسية التي سادت لدينا خلال الخمسينيات والستينات- فترة صعود المد الشعبي- يجد أنها اقتصرت على طرح مجموعة عريضة من الشعارات الواعدة التي تصلح أحياناً لتعبئة الشارع السياسي في لحظات المد والفوران لكنها لا تقدم زاداً وذخيرة حية بعيدة المدى.

شعارات مثل الوحدة، الحرية، الاشتراكية، الديمقراطية، الثأر، الخبز، السلام) التي سادت لدى التيارات القومية والتقدمية، مثل (القرآن دستورنا) لدى التيار الديني ظلت شعارات عامة مشوبة بالعاطفة والطوبائية، دون أن تمتلئ وبمضامين عملية تجيب من تساؤلات ملحة يطرحها الواقع المعاصر كل يوم.

واليوم وفي ظل التعقيدات والإحباطات التي تعيشها وفي ظل بيئة عالمية متغيرة ومتحركة بسرعة شديدة لم نعهدها من قبل، لم تعد الأمور المصيرية تحتمل الشعارات العامة والعريضة، أو مرد التأكيد على المنطلقات العقائدية الأساسية، وإنما أصبح الأمر يتطلب فكراً ملتزماً، وأيضاً فكراً عملياً هادياً يخرج بنا من الظلمات إلى النور.. ويطرح البدائل العملية ويقيم الفرص المتاحة ودرجات الحرية والمناورة التاريخية من ناحية، وحجم العثرات والمخاطر والقيود الماثلة من ناحية أخرى.

نريد فكراً يترجم إلى برامج، قابلة للتغشيل والتنفيذ في الواقع العملي المعاش، نريد فكراً ممزوجاً بين العقل والحلم والواقع، وبين العلم والسياسية.

تلك التحديات التي تواجه الفكر السياسي لدينا في الوقت الحالي، في بدايات القرن الواحد والعشرين.

العدد 1104 - 24/4/2024