حول حضارة العصر، بين الجذور والاستثمار

يونس صالح:

تقول بعض المدارس الاستشراقية: (الحضارة الدينية حضارة أوربية، وتندمج في نسيج حضاري العلوم والمخترعات والتقنيات بالأفكار والقيم والإيديولوجيا التي مهّدت لنموها واختراعها، بحيث يترابط الجانبان في تزاوج عضوي لا يقبل الفصل والتجزئة، لذلك فإذا أرادت الأمم الشرقية أو أية أمم واقعة خارج المنظومة الحضارية الغربية أن تقتبس التقنيات والمخترعات الغربية، فليس لها من خيار غير أن تقتبس أيضاً القيم والأفكار الأوربية التي ارتبطت بتلك التقنيات تاريخياً واجتماعياً، وعليه فإن محاولة أخذ التكنولوجيا منفصلة تماماً عن إطارها الحضاري الأوربي الغربي هي محاولة مستحيلة ومحكوم عليها بالفشل).

هكذا ألقوا بهذه الفكرة عندنا، وتركوها تزرع البلبلة والاضطراب في تفكير كثير من العقول المفكرة الحائرة التي تبحث عن حل فلا تجد غير الاستحالة التي زرعوها.

لقد انقسم العقل في البلدان العربية تجاه هذه الفكرة إلى شطرين أساسيين في عملية انفصام مؤسف تعمّده أصحاب تلك الفكرة ومتعهدوها. فقد انجرّ فريق إلى الاستسلام أمام منطقها وطالب بالتغريب، أي تقليد الغرب، في القيم والسلوك والأفكار، من أجل أن نستطيع استيعاب المخترعات والتقنيات والتكنولوجيا الحديثة بصفة عامة، ذلك أن عدم استيعابها يعني فناءنا أمام القوى المتقدمة، كما تنذر به تراجعاتنا أمامها في أكثر من ميدان. وفريق آخر صدمته الفكرة المستفزّة، وعنصر الاستفزاز فيها مقصود أيضاً ومتعمد، فقرر رفض الجانبين معاً: التكنولوجيا مع قيمها وحضارتها الأوربية. وإذا كانت التكنولوجيا ستفرض علينا أن نتخلى عن قيمنا وتقاليدنا، فلتذهب هذه التكنولوجيا إلى الجحيم، وليكن ما يكون!

وتعمق الخلاف والانفصام في عقل الأمة وبنيانها بين هاتين النظرتين والموقفين، والذين زرعوا الفكرة وصدّروها إلينا، فيما صدّروا من استهلاكيات، يفركون أيديهم ويتطايرون فرحاً، لأن فكرتهم حققت بعض أهدافها.

والآن بعد أن مررنا ورأينا تجارب غيرنا من الأمم الشرقية كيف تحضّرت، علينا أن نغيّر في استجابتنا لهذه الفكرة، وأن ننظر إلى المسألة بعين جديدة، وعقل متحرر من رد الفعل الآلي أمام منطقها، القائم على: إما.. وإما!

ومن أجل تفكيك هذه الفكرة، يمكن طرح التساؤلات التالية:

إذا كان صحيحاً أن العلوم والمخترعات لا تؤخذ إلا ومعها عقائد أصحابها، فكيف أخذتم أيها الأوربيون علوم الشرق ومعارفه، في مطلع نهضتكم الأوربية، دون أن تأخذوا عقائده وقيمه وسلوكه، فبقيتم أوربيين وغربيين رغم دراستكم وتطبيقكم لطب ابن سينا، وعقلانية ابن رشد، واقتباسكم لأساليب الري والزراعة العربية الأندلسية، وإقبالكم على منهجية جابر بن حيان وابن الهيثم في البحث العلمي، وانبهاركم بالفن الأسطوري في حكايات ألف ليلة وليلة، وبالذوق الرفيق في طوق الحمامة لابن حزم، إلى آخر تلك الاستعارات التي يشهد بها تاريخ العلم والحضارة؟ كيف استطعتم أن تهضموا ذلك كله وتبقوا أوربيين وغربيين، ثم تأتون وتقولون لنا ليس أمامكم سوى التغرب والتغريب؟

صحيح أن معظم المخترعات الحديثة هي من صنع العقول والأيدي الأوربية الغربية، ولكن هل الحديد الخام الذي يمثل عمودها الفقري هو اكتشاف أوربي؟ وهل النار والطاقة هي اكتشاف أوربي؟ وهل العجلات التي تتحرك بها من إبداع التكنولوجيا الغربية؟

إن هذه المخترعات قد انصبّ في صنعها_ إذا تتبّعناها من الجذور_ جهد الذي اكتشف النار، واكتشف الحديد والمعادن الصلبة، واخترع العجلة المستديرة كوسيلة تحريك للعربات والأجسام الثقيلة، مع عشرات ومئات الاكتشافات والاختراعات المتدرجة الأخرى التي أوصلت اليوم إلى صنع الطائرة أو الصاروخ أو التلفاز أو الكمبيوتر وغيرها.

ولنتأمل فقط في الكتاب المطبوع، صحيح أن الطباعة هي اختراع أوربي، ولكن الورق الذي يمثل المادة الخام التي لا غنى عنها لأي كتاب، هذا الورق هو اختراع صيني أخذه العرب وطوّروه ثم أوصلوه إلى أوربا.

من ناحية أخرى فإن أي كتاب لا يمكن أن يتجسد إلا من خلال أبجدية معينة للغة من اللغات، فمن هم مخترعو الأبجدية في العالم؟

إن المعروف تاريخياً أن الفينيقيين هم مخترعو أول أبجدية في العالم كرموز صوتية مكتوبة تتخذ شكل الأحرف، فهل يصح، والحالة هذه، أن يأتي الأوربي بكتابة المطبوع الصقيل المتقن، ويقول لنا: انظروا! هذا الكتاب المطبوع صناعة أوربية، خذوها بأفكارها، أو لا شأن لكم بها!

لكن هذه الأخلاقية الاستعمارية الأوربية لن تحجب الحقيقة، حقيقة أن الحضارة الحديثة، الحضارة الإنسانية الشاملة التي اصطادها الأوربي الغربي ووضع عليها قناعه وسحنته ولكنته، لن تظل سجينة في أوربا وأمريكا إلى الأبد، وستعود إلى أصحابها دون تمييز بين شرقي وغربي، مع الاعتراف لكل صاحب فضل بفضله، ولكل صاحب عطاء حضاري بعطائه، غرباً كان أو شرقاً.

إذاً، وبعد هذا التفكيك لتلك الفكرة، يتضح أن التخيير بين القبول المطلق أو الرفض المطلق لا يقوم على أساس علمي تاريخي من تجارب الحضارة والتطور البشري.

إن عالمنا اليوم يشهد حضارة حديثة إنسانية شاملة تمت بصلة نسب إلى كل الحضارات التي سبقتها، من صينية وهندية وعربية وإغريقية وأوربية وغيرها، وأنه باستطاعة مختلف الأمم أن تقبل على هذه الحضارة الإنسانية الشاملة لتنهل وتقتبس، خصوصاً ما يتعلق منها بالتقنيات الحديثة ومناهج البحث والتحليل، دون أن تتخلى عن شخصيتها.

إن الثقافة هي شيء خاص بأي أمة من الأمم، تكونت واتخذت أبعادها بصورة تاريخية، فهي غير مقتبسة، إنها تتأثر وتؤثر بغيرها من الثقافات الأخرى، أما الحضارة فهي إرث إنساني مشترك أخذت منه جميع الشعوب عندما أسست حضارتها، وأعطت لغيرها عندما أثمرت تلك الحضارة، بكل حرية واستقلال في الاختيار. إذاً يجب علينا قبل كل شيء أن نتحرر من منطق: خذوها كلّها، وإلا فلا!

العدد 1102 - 03/4/2024