ما بعد (موت المؤلف)!
أحمد علي هلال:
منذ أن طرح رولاند بارت، أحد أساطين النقد الأدبي في فرنسا والعالم، أطروحته المثيرة للجدل (موت المؤلف) في كتابه اللامع (نقد وحقيقة)، تفاوت استقبال (بارت) في النقد العربي، إذ إن صورة بارت ناقداً كانت تحفر في الأنساق المعرفية والفلسفية وفي بيئة معرفية مغايرة حكمتها تقاليد مختلفة، لكن بارت نفسه وفي تلقيه العربي وعلى غير مستوى استدعى جملة من السجالات الفكرية التي جعلت من تلك الأطروحة –موت المؤلف- محض فرضية قابلة للجدل والنقاش لا سيما أنها في محاولة توطينها في الفضاء النقدي العربي، تعدت السياق الثقافي المختلف الذي أُشيعت فيه، لتطرح أسئلة جديدة قديمة على المتلقي، ليس بتبسيط السؤال هل يموت المؤلف؟ إذ إن المؤلف هو النص بذاته، وهذا في سياقات القراءات الفاحصة والمنتبهة إلى أن النص أصبح هو كاتبه بامتياز، وذلك لا يعني على الإطلاق فيما عناه بارت، وهو صاحب الارتيابات المعرفية الكثيفة، إلا ولادةً للقارئ الجديد المغاير، واستدعاءً لعصر القارئ المنتج للنص، بل هو أحد مكوناته في حيز الاستقبال والتأويل، كما ذهبت نظريات التلقي واتجاهاتها بالمعنى الفلسفي والجمالي والاجتماعي وسوى ذلك.
وما يعني القارئَ العربي اليوم وهو يتلقى نصوص الإبداع، مستويان من القراءة هما: النسقية، والقرائية، وأبعد من ذلك يمكن القول إن تغير عادات القراءة حكمها تغيُّر في أنساق الاستقبال، فلم يعد النص جملة من العلائق اللغوية فحسب، بل ثمة ذهاب إلى الحامل الاجتماعي والإنساني، بعيداً عن خطل التيار البنيوي وما بعده في اختزال النص، إذ إن الطبيعة الاجتماعية/ التداولية التي تعني أكثر من أفق لاستقبال النص ستنعكس على القارئ ذاته، أي باستحضار مرجعيته هو القرائية وبالمعنى الثقافي المتعدد، نظراً لإحراز غير دلالة يكتنزها النص المرصود، ولم يعد اليوم الأمر مجدٍ في القراءة العابرة التي تختزل القارئ في علاقته باللغة فحسب، على أهمية هذه اللغة، بل بقدر ما يستدعي النص من القارئ المؤول كفاءته في التحليل ومقارنته وقدرته على اكتشاف الإضافة في ذلك النص، بما يعني استدعاء أفقه الفكري بعيداً عن سلطة المزاج النفسي، التي لا تستطيع أن تفصل بين النص وكاتبه، ذلك أن الفصل هو إجرائي فحسب لمقتضيات الضرورة المعرفية، التي تفسح المجال باكتشاف جماليات النص العابرة للجماليات، ولعل جماليات القبح ستكون إحداها، فليس المعول عليه فقط، في هذا السياق، إلا إحراز التوازن في تلقي النص ليأتي بنية متكاملة في قوس القراءة، وهذا ما فسح في المجال للقول إن دور القارئ هو ردم فجوات النص وتأليف مشتركاته، بمعنى آخر إن الحافز التأليفي أصبح رهن القارئ، ليس من أجل إعادة كتابة النص من جديد، بل اكتشاف آفاقه المحتملة في السياق الثقافي الذي يراعي كل مكوناته البنائية، فضلاً عن حوامله الأخرى المختلفة، والتي باتت تعني اليوم أكثر من أي وقت مضى لمؤسسة النص الكثير، مما يغذي الدرس النقدي العربي، الذي لا بدّ له من أن يستنبت حقائق جديدة للإبداع، لا تعني الحقائق المنتهية، بقدر ما تشرع الأفق لأسئلة تُحايث النص بنية وخطاباً، النص المشروط بالثقافة والموهبة والتراكم المعرفي، هو دينامية القراءة المعاصرة، التي من شأنها أن تغير في تقاليد استقبال النص، وتالياً في عادات القراءة على الرغم من تفاوتها واختلافها من ذائقة إلى أخرى، ومن مؤول إلى آخر، وهذا الاختلاف صحي بالضرورة لأنه يحمل سمة التعدد والانفتاح، لا الانغلاق والجمود والتكلس.
لا نعني هنا التباس استقبال مصطلح أو فرضية بعينها، بقدر ما نعني الممكن الإبداعي الذي تنجزه النصوص الحية القادرة على استيلاد قارئها المعرفي الجديد الذي لا يذهب إلى النص أيما نص، وهو مكتفٍ باطمئنانه العمومي والخاص!