بمناسبة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 أيلول.. هل تخيف الحريـة الإنسان؟!

يونس صالح:

هل يخاف الإنسان العيش في ظلال شجرة الحرية الوارفة؟ سؤال محيّر، إلا أن الواقع يؤكد أن الخوف من الحرية مازال قائماً، بدليل استمرار المطالبة بها من جانب قطاعات كبيرة من المجتمعات في عالم اليوم، وعدم تمتع هذه القطاعات بالحرية المبتغاة، يعني أن هناك قطاعات أخرى في هذه المجتمعات مازالت تتخوف من الحرية، تخوفها من العدالة ومن المساواة ومن كل ما يتصل بهما!

ومشكلة الحرية الإنسانية هي إحدى المشكلات التي خلفت وراءها تراثاً ضخماً من الأعمال والأفكار الأدبية والسياسية منذ أن بدأ الإنسان كتابة التاريخ، كما أنها من القضايا التي تظهر في كل عصر وكل جيل، ولقد عولجت طوال فترة الفكر الإنساني المعروف.

ولا يعنينا هنا الحرية بمعناها الميتافيزيقي الطوبائي المطلق، فهي بهذا المعنى لا وجود لها على الإطلاق إلا في أذهان الحالمين المحلقين في الخيال، ولكن الذي يعنينا هو الحرية النسبية أو الحدود الدنيا للحرية المتعارف عليها اليوم بعد مسيرة البشرية عبر هذه القرون الطويلة.

ومن خلال الزوايا المختلفة، أخلاقية وفلسفية واجتماعية وسياسية وقانونية ونفسية، تبقى قضية الحرية الإنسانية بمعناها الواقعي الملموس مشكلة تشغل بال كثيرين من مفكرين ورجال سياسة ورجال تعليم ومصلحين اجتماعيين.

وعلى مر العصور كانت أسباب غياب الحرية الإنسانية أو الخوف منها مختلفة، فتارة هي أسباب عقائدية وأخرى اقتصادية، واجتماعية، وثالثة سياسية ورابعة عرقية، إلى آخر أسباب تغييب الحرية! ولكن النتيجة في النهاية واحدة، وهي معاناة الإنسان، وفئة من المجتمع، أو إقليم من الأقاليم، أو طائفة من البشر، معاناة جمة نتيجة لغياب الحرية.

ولو نظرنا إلى التاريخ الإنساني لوجدنا نصوصاً كثيرة في الغرب والشرق على حد سواء تدافع عن قضية الحرية والمساواة والعدل.. ولكن لأنها نسبية وليست مطلقة، فما زال مفهومها يتطور ويتغير بمرور الزمن، وكلما حصل الإنسان في زمان معين على قواعد ومعايير شبه ثابتة لقياس الحرية، وجد أن التطور الاقتصادي والاجتماعي ما يلبث أن يتعداها، فيجد الإنسان نفسه وقد بدأ يبحث من جديد عن معايير جديدة، ومن هنا نرى أن قاعدة الإطلاق والشمولية متناقضة مع قضية الحرية.

عندما يتحدث البعض عن الحرية، يتحدث عنها بشكلها المطلق، وهذا التفكير في الواقع يؤدي إلى المزيد من الاستبداد أكثر مما يؤدي إلى مزيد من الحرية، فالحرية في معناها النسبي الذي توصل إليه الفكر الإنساني ليست فقط في غياب شيء ما، ولكنها أيضاً وقبل ذلك هي في حضور شيء ما، فالحرية المطلقة عبء لا يستطيع أن يتحمله الإنسان فرداً أو جماعة. هذا ما نراه في عالم اليوم، فمعايير الحرية والعدالة في مجتمع ما أو في ظل عقيدة سياسية إيديولوجية معينة لا تعني بالضرورة أن هذه المعايير يمكن أن تنطبق على مجتمع آخر بحذافيرها، كما أنها لا تعني أن هذا المجتمع عندما يرضى بتطبيق هذه المعايير على أفراده يقبل عن طيب خاطر تطبيقها على مجتمع آخر، فالمصالح والرغبات قد تتدخل لتقديم معايير أخرى يجري فلسفتها بأشكال عدة. هذا ما نلمسه اليوم في العلاقات الدولية، فعلى الرغم من أن دولاً في أوربا الغربية وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية، تؤمّن حداً أدنى من حقوق الإنسان لمواطنيها، نجد أن هناك فئات ليست قليلة في هذه البلدان ترفض تطبيق هذه المعايير في البلدان النامية، أو كما يطلقون عليها بلدان العالم الثالث، وما النقاش الدائر اليوم في تلك الأوساط حول فكرة ربط المعونات الخارجية لدول في العالم الثالث، بحد أدنى من توفر حقوق الإنسان، إلا مثل واحد من بين أمثلة كثيرة، منها تأييد بعض الحكومات التي لا تعترف بتلك الحقوق الإنسانية تأييداً مطلقاً، لمجرد أن مصلحة الدول التي تقدم هذه المعونات تقتضي هذا التأييد!

إلا أن حتمية الحرية بمعناها النسبي، وهي التي تعني حدوداً عامة ومشتركة تؤكد إنسانية الإنسان وخيره وسعادته، هي المحصلة التي نخرج فيها من قراءة التاريخ، فتاريخ الإنسان هو تاريخ الحرية، رغم النكسات الكثيرة، والشواهد على ذلك جمة.

إن ما يميز الإنسان هو نزعته إلى الحرية، ثمرة العقل، فقد تعلم الإنسان أن يعتمد على نفسه، ويتخذ قرارات مسؤولة لنفسه ولبني جنسه، ويبتعد تدريجياً عن الخرافات المضللة بفضل اختياره طريق الحرية في التساؤل والبحث والتحصيل. وبقدر ما يتوفر للإنسان من المعرفة يكون حراً، وهكذا تلازمت المعرفة بالحرية والحرية بالمعرفة.

إلا أن نسبية الحرية تظهر أكثر ما تظهر في المنعطفات الهامة التي مرت بها الإنسانية، فنحن نرى من خلال مسيرة التاريخ أنه كلما انهار نظام اقتصادي واجتماعي قديم، وبدأ بزوغ نظام اقتصادي واجتماعي جيد، برزت المناداة بالحرية وحقوق الإنسان، ويمكن ملاحظة ذلك في تاريخ العالم الحديث في حدثين: الثورة الفرنسية (1789-1792)، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية.

فحين قامت الثورة الفرنسية وأصدرت الجمعية الوطنية بيانها المشهور عن حقوق الإنسان، كانت مبادئ (الحرية والإخاء والمساواة) هي الصيحة العالية.

ولكن جماهير العالم ما لبثت أن وجدت أن أصداء تلك الصيحة قد ضاعت تحت أصوات مدافع الطبقة الأوربية الاستعمارية في القرن التاسع عشر.. وقد ظن العديدون أن الحرب العالمية الثانية قد تكون هي الصراع النهائي، وأن انتهاءها يعني الانتصار النهائي للحرية. وجاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ليؤكد هذا الوهم الذي وافقت عليه معظم الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، لكن وبالرغم من كل ذلك مازالت الإنسانية تعاني في كثير من مواقعها من حرمانها من الحرية بمعناها الحقيقي والواقعي.

ومن منظور علاقات الشعوب بعضها ببعض، مازالت القوة ودبلوماسية البوارج والتهديد بالحرب، هي النغمة السائدة بدلاً من الوفاق والمفاوضات وحل المشاكل سلمياً. وعلى صعيد المجتمعات فعلى الرغم من التقدم الملحوظ في بعض هذه المجتمعات الغربية الرأسمالية لحماية الحقوق الأساسية للإنسان، نجد أن انتشار البطالة والبقاء تحت شبح الحرب النووية ليس إلا بعضاً من أمثلة كثيرة على امتهان كرامة الإنسان وحقوقه.

أما في الكثير من البلدان النامية، فما زالت حقوق الإنسان الأساسية أماني، وحتى الحقوق الأساسية الطبيعية، كحق الحياة والعمل، عدا حقوق التحرر من التمييز العنصري والاجتماعي، أو حقوق الرأي والعمل السياسي مازالت معدومة، بل قد يتعدى الأمر ذلك إلى واقع الحرمان من المحاكمة العادلة، وإلى حد ممارسة العبودية المباشرة وغير المباشرة، كأن يرهن إنسان عمله إلى وقت غير محدد سداداً لقرض حصل عليه من مرابٍ أو استغلال عمل الأطفال القصّر، لذلك فإن الحد الأعلى المطالب به لحقوق الإنسان في العالم الثالث كما يقال هو حد يقع بعيداً عن الحدود الدنيا التي يتمتع الإنسان بها في البلدان المتطورة.

تلك حقيقة علمية حري بنا أن نستوعبها، كما أن حقوق الإنسان هي في الأصل سبيل لغاية أهم تقوده إلى حياة أفضل على هذه الأرض في ظل سلام وطمأنينة.

إن معظم شعوب الأرض تملك تراثاً وتاريخاً يحثان على تكريم الإنسان وحفظ حقوقه الأساسية. إن إعلان حقوق الإنسان مباشرة بعد الثورة الفرنسية، ووثيقة الحقوق الأمريكية عشية الاستقلال الأمريكي، وإعلان حقوق الطبقات الكادحة الذي أقر في مؤتمر السوفييت عشية الثورة البلشفية وصولاً إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بعد الحرب العالمية الثانية، هذه كلها حلقات تصل التاريخ الحاضر بالماضي، ولكنها تسير كلها في اتجاه واحد وهو القول باحترام الإنسان وتكريمه، وإذا كانت معظم تلك الوثائق ظلت حبراً على ورق فإن الملامة هنا تقع على الإنسان نفسه وعلى الأنظمة الاجتماعية السائدة.

إن حقوق الإنسان مثلها مثل أي مبادئ إنسانية عامة، هي حقائق نسبية، ولم يعد غريباً في الصراعات السياسية والأيديولوجية في عالمنا المعاصر أن تكون الحقائق نسبية، وأصبح من المألوف أن نجد جماعات في هذا العالم تؤمن- وكل منها على اقتناع تام- بحقيقة مناقضة لحقيقة ما يؤمن به الآخرون، إلا أن الحقيقة الأخرى في سياق تطور الإنسانية العام أن خلف البشرية تعددية تاريخية صينية أوربية هندية عربية.. إلخ، ولكنها تتجه أيضاً إلى مستقبل تاريخي واحد.

العدد 1102 - 03/4/2024