القانون والمجتمع.. من يضع القوانين ومن يطبقها؟!
يونس صالح:
لا تدب الحياة في القانون إلا عندما تختل الأمور، هكذا قال الكاتب الفيلسوف الفرنسي فولتير في القرن الثامن عشر. والمعنى الذي قصده هو أن القانون لا تظهر قيمته الحقيقية إلا إذا حدث خلاف بين أفراد أو جماعات، وإن المكان الذي تظهر فيه قيمة القانون هو قاعة محكمة من المحاكم.
لقد شغلت فكرة القانون وعلاقته بالمجتمع، ومدى حاجة الناس إليه، الكتّاب والفلاسفة والمشرّعين على مرّ العصور، فمنهم من قال إن الإنسان خيّر بطبعه، وإن فطرة الإنسان هي فطرة خيّرة تميل إلى الطيبة والتسامح، بدليل التجربة المباشرة لأي إنسان في مجتمع سوي، فهناك ميل طبيعي للعيش بسلام بين الإنسان وزملائه ومعاشريه من بني جنسه، ومن المفكرين من قال بعكس ذلك، وبأن فطرة الإنسانة فطرة شريرة، ومن قال بأن فطرته لا هي بالشريرة ولا الخيرة، وإنما تحوي كلاهما وهي مرتبطة بالظروف الاجتماعية القائمة، ولذلك احتاج الإنسان لتنظيم عيشه في مجتمعه إلى قوانين وأعراف تضبط العلاقات، وتنظم المصالح وتحل محل القوة في فض الخصومات.
والدراسات الاجتماعية القانونية الحديثة لا تأخذ بهذا الرأي أو ذلك بشكل كامل، فمع التسليم بأن الخلافات والتنافر والأمراض الاجتماعية التي يعانيها الإنسان في أي مجتمع هي نتاج مباشر للصراعات التي يتميز بها وجود الإنسان الحضاري المعقد على الأرض اليوم، نجد النمو الحضاري بحد ذاته قد ارتبط على الدوام بالتطور التدريجي لنظام من القواعد الشرعية صيغت في قوانين معروفة يحترمها الناس، ومن دونها تدب الفوضى ويختفي السلام الاجتماعي.
فهناك إذاً علاقة اطراد بين تعقد الحياة الحضارية التي تعيشها البشرية والاحتياج لوجود قوانين تنظم شؤون الحياة، حتى وصل بعض المبالغين إلى القول بأن تطور القوانين في مجتمع ما دليل على المستوى الحضاري الذي بلغه، فكلما كانت هذه القوانين شاملة ومنظمة ودقيقة كان المستوى الحضاري لذاك الشعب متقدماً، وإن نطاقاً ما من القواعد والقوانين يبدو ضرورة صحية حتى في أبسط أشكال المجتمعات الإنسانية.
ويلخص مؤرخو الشرائع مراحل تطورها في الجماعات بقولهم: إن الإنسان اعتمد في بداية تاريخه على القانون الطبيعي، ثم تحول إلى القانون الوضعي، ولو أنه في بعض المجتمعات مازال الاثنان يتعايشان. ويفرق علماء القانون بين النظامين: نظام القانون الطبيعي ونظام القانون الوضعي بقولهم إن الأول – القانون الطبيعي- يدور حول فكرة العدل والخير العام، وإنه يضم مجموعة من قواعد السلوك المستقرة في الضمير العام، وهي تستمد من بداهات العقل وأساسياته فكرة العدل، التي تسبق وجودها كل تدخل منظم للسلطة الحاكمة في الجماعة. وقد اعتقدت به البشرية لعصور طويلة بأشكاله البسيطة أولاً والمعقدة بعد ذلك. وكانت قاعدة هذا الاعتقاد أن هناك انسجاماً بين العالم البشري والعالم الطبيعي، وأن ذلك الانسجام لا يمكن صيانته إلا باتباع طقوس وشعائر وعادات في أوقات مناسبة. أما القانون الوضعي فهو الذي تفرضه سلطة ما، والذي يطبق عملياً في مكان وزمان معينين. ومازالت المناقشة حتى يومنا هذا تتمتع بحيوية- تزداد أو تنقص حسب الظروف- في المفاضلة بين القانون الطبيعي والقانون الوضعي، ولم يتم حتى الآن إحلال القانون الوضعي محل القانون الطبيعي بشكل نهائي في كل المجتمعات البشرية، إلا أن البعض يرجع انتشار القانون الوضعي إلى التقدم العلمي والتقني الذي شهده العالم الغربي في القرنين السابقين.
وللتدليل على ارتباط القانون بالمجتمع، يسوق بعض الباحثين مثال التحولات التي طرأت على محتوى القواعد القانونية، حتى في نطاق القانون الطبيعي، فبعد أن كانت فكرته الرئيسية تعتمد على الطاعة العمياء لأشكال مادية أو بشرية تؤمن بها الجماعة كمصدر للخير والشر ولفرض النظام والقانون، وإشاعة العدل، تحولت الفكرة تدريجياً خلال مسيرة التاريخ إلى أن الحقوق والواجبات متساوية لكل البشر.. وعلاقة المجتمع بالقانون الوضعي، أكثر وضوحاً، فالقوانين التي تصدرها سلطة ما نتيجة لأسباب معينة تتغير بالضرورة بسبب تلك الأسباب.
لقد أخذت مسيرة تطور القوانين الوضعية في البلدان المتقدمة ردحاً طويلاً من الزمن، وكانت خطوات هذا التطور ومراحله في مجموعها مرتبطة باحتياجات الجماعة وظروفها، إلا أن بلدان العالم النامي بمجملها قد استعارت الكثير من هذه القوانين، وجربت تطبيقها في بلدانها، دون التفات كامل إلى الصلة العضوية التي تربط النصوص القانونية بالبيئة التي نشأت فيها، ودون احتراز من الآثار السلبية التي يولدها الإلزام بنصوص قانونية منفصلة عضوياً عن البيئة التي نقلت إليها.
فإذا كانت تلك القوانين، لأسباب موضوعية، تعاني من مشكلات التطبيق في بيئتها التي انبثقت عنها، فإن مشاكل تطبيقها تتعاظم في البلدان النامية، التي استوردت هذه القوانين دون علاقة بالظروف الاجتماعية السائدة في بلدانها.
إن القضايا الاجتماعية التي تثيرها فكرة القانون متعددة ومتشابكة، وهناك قضيتان تستحقان أن تكونا موضع اهتمام الناس جميعاً وهما: من يضع القوانين؟ وكيف يطبق القانون إذا وُضع؟
كيف تطبّق القوانين؟
قيل إن تطبيق القانون هو مباراة بين طرفين لا يستطيع أن يفوز فيها إلا طرف واحد، فإثبات الدعاوى أمام المحاكم على سبيل المثال، مشكلة شغلت البشر منذ ألوف السنين، وفي الزمان الغابر كان التعذيب وسيلة لإجبار المتهم على الاعتراف بجرمه، وتطورت تلك الوسائل حتى أصبحت وسائل تكنولوجية حديثة تصل إلى حد الاستشعار عن بعد. إلا أن مشكلة إثبات الدعوى مازالت ملازمة للتطبيق القانوني المكتوب في كل مجتمع. لذلك يحتاج المتهم والمدعي في النظام القانوني الحديث إلى محام يدافع عنه، ويفسر النصوص القانونية لمصلحته، فالمشكلة إذاً هي تفسير النصوص القانونية التي لا تطبق تلقائياً، ولكن يجري تطبيقها من خلال تفسيرها، حين تطرح قضية التفسير وعلاقته بالمجتمع.. والخلاف في التفسيرات القانونية لا يقتصر على القواعد المدونة، وإنما يشمل القواعد القانونية المستمدة من العرف السائد. وقد تأخذ بعض القضايا طابع الصراع الاجتماعي، بصرف النظر عن القواعد القانونية التي تحكمها.
وفي بلداننا تتفاقم مشكلات التطبيق، فبجانب غموض النص وتعقيد صياغته، وبالتالي استحالة فهمه من الجمهور، فإن تطبيق النصوص القانونية كثيراً ما يتم بشكل انتقائي، نتيجة للظروف الاجتماعية السائدة في هذا المجتمع أو ذاك. وهنا تتضح العلاقة العضوية بين المجتمع وبين القانون الذي يفرزه.
من يضع القانون
في حالة القانون الوضعي، وفي العالم المتقدم بشكل عام، توضع القوانين من قبل هيئات ممثلة للمجتمع عن طريق الانتخاب، وقد تختلف درجة تمثيلها، إلا أنها تضع القوانين ثم تكون بعيدة بعد ذلك عن تطبيق تلك القوانين. وفي البلدان النامية كثيراً ما تكون السلطة التي تصدر التشريع هي التي تقوم بتطبيقه وتفسيره أيضاً. وغالباً ما تكون تلك السلطة ممثلة لمصالح أقلية في المجتمع. ومن هنا فإن احترام هذه القواعد القانونية من بقية أفراد المجتمع يكون موضع شك كبير، إما لأن القواعد القانونية تتعارض مع مصالحهم مباشرة، أو لأن تلك القوانين تخدم مصالح فئة قليلة من المجتمع.
لقد ذهب بعض علماء الاجتماع إلى القول إنه في المجتمعات التي لا تمثل في قانونها مصالح الفئات المختلفة في المجتمع، يتراجع المجتمع إلى وضع قانون غير معلن (القانون الحي) يختلف كثيراً أو قليلاً عن القانون الوضعي المعلن، والعجز عن ربط القانون الوضعي بالقانون الحي ينجم عنه تجاهل وازدراء للقانون الوضعي. لذلك فإن معرفة القانون الوضعي في مجتمع ما دون معرفة حقيقية للقانون الحي، لا تعطينا إلا صورة زائفة عن مدى تطوره، وتضللنا كلياً عن فهم النظام الاجتماعي القائم.
إن معنى ما تقدم أن عدم المشاركة الشعبية في وضع القوانين الوضعية التي تمثل المصالح المختلفة للمجتمع لابد أن تنتج قانوناً متحيزاً.
إن هذه الخطوة رغم أهميتها لا تخلو من سلبيات منها أن الهيئة المشرعة المنتخبة تضع مشروعات القوانين بصياغة عامة وغامضة من أجل سهولة تمريرها، ولكن بعد أن تصبح قانوناً تظهر عيوبه في التنفيذ، وتخضع للتفسيرات المتعددة، ورغم هذه السلبية نجد أن الفكر القانوني الاجتماعي الحديث يقبل هذه المخاطرة الجانبية في سبيل أن تكون القوانين ممثلة لكل فئات المجتمع ونابعة منه.
ومعضلة كثير من البلدان النامية – وليست البلدان العربية مستثناة من ذلك- أن قوانينها لا تعبر بشكل شامل عن مصالح الفئات المجتمعية المختلفة ومطالبها ورغباتها، لذلك أصبح البناء القانوني في هذه البلدان أو في بعض أجزائه على الأقل، أقرب إلى الشكلية منه إلى خدمة المجتمع وتطوره.