العلمانية بين التشويه والحقيقة !

 طلال الامام /السويد: 

  يلاحظ المتابع ان ثمة سجالا واسعا في مختلف وسائل التواصل حول العلمانية، يساهم فيه نشطاء سياسيون، مفكرون ومن هيئات المجتمع المدني وحتى رجال دين.

إن مسألة إقامة الدولة العلمانية في المجتمعات التي مازالت التأثيرات الدينية متجذرة، بل وتصل أحياناً إلى نزاعات وحروب على أسس دينية او طائفية، ليس بالأمر السهل أبداً.

هذا ماكان عليه الحال حتى في البلدان التي قطعت أشواطاً كبيرة في العلمنة. لكن بدء سجالات وحوارات حول علمنة مجتمعاتنا ظاهرة إيجابية والخطوة الاولى.. تستحق توسيعها وتقدير من يساهم فيها.

يتم تناول مسألة العلمانية من وجهات نظر مختلفة لها مصالح مختلفة، لان الحديث في نهاية المطاف يدور عن السلطة. كيف ؟ هناك من يربط العلمانية زورا بالانحلال الاخلاقي، أو بالإلحاد، بمؤامرة خارجية، من انها لاتتناسب ومجتمعاتنا المحافظة، وان الوقت ليس مناسبا لطرحها، ويصل الامر لحد تخوين او حتى اقامة الحد ( قتل ) من ينادي بها او وصفها انها الوجه الاخر لداعش. وهناك من يدعي ان السجال حولها يحرف المجتمع عن النضال الطبقي، الوطني المؤسف ان بعض من يقول ذلك محسوبا على تيار او حزب تقدمي علماني.

من جهتي اعتقد ان النضال من أجل العلمانية هو جزء من النضال من اجل مجتمع عادل لجميع مواطنيه حقوقا وواجبات سياسية، اجتماعية ام اقتصادية واحدة بغض النظر عن الانتماء الديني/ الطائفي.. النضال من أجل مجتمع ينتفي فيه تعبير مفهوم الأقلية او الأكثرية الدينية، الجميع فيه مواطنون بذات الدرجة. وطن للجميع.

ولكن ماالمقصود بالعلمانية؟ للعلمانية تعاريف مختلفة

احيانا يقال (العَلمانية هي فصلُ الحكومة والسّلطة السّياسيّة عن السّلطة الدّينيّة أو الشّخصيّات الدّينيّة.. فقد تعني عدم قيام الحكومة أو الدّولة بإجبار أيّ أحدٍ على اعتناق وتبنّي معتقدٍ أو دينٍ.. كما تكفل الحقّ في عدم اعتناق دينٍ معيّنٍ وعدم تبنّي دينٍ معيّنٍ كدينٍ رسميٍّ للدّولة. وبمعنى عامّ، فإنّ هذا المصطلح يشير إلى الرّأي القائِل بأنّ الأنشطةَ البشريّة والقراراتِ -وخصوصًا السّياسيّة منها- يجب أن تكون غير خاضعة لتأثير المُؤسّسات الدّينيّة).

وهناك تعريف اخر بقول:العلمانيّة بالإنجليزيّSecularism : هي عبارة عن مجموعةٍ من المُعتقدات التي تُشير إلى أنّه لا يجوز أن يُشارك الدين في المجالات السياسيّة للدول، وتُعرَّف العلمانيّة بأنّها النظام الفلسفيّ الاجتماعيّ أو السياسيّ الذي يَرفض كافة الأشكال الدينيّة؛ من خلال فصل المسائل السياسيّة عن عناصر الدين.

من خلال مختلف تعاريف العلمانية نرى ان اساسها هو فصل الدين عن الدولة، المدرسة، التشريع وان ينحصر دور رجال الدين في دور العبادة دون تدخل في شؤون الناس التشريعية او اليومية بالترغيب او الترهيب. كما ان يكفل القانون حرية ممارسة الشعائر الدينية وحقوق المؤمنين ضمن دور العبادة، على ان يكفل في الوقت ذاته حرية عدم الإيمان انطلاقا من مفهوم المواطنة المتساوية، بمعنى أن مواطني الدولة العلمانية والمدنية متساوون في الحقوق والواجبات بغض النظر عن خلفيتهم الدينية/ الطائفية.

ان ماذكر اعلاه يشير بوضوح الى ان الدولة العلمانية تكفل حقوق المؤمنين في ممارسة شعائرهم الدينية بحرية شرط ان لاتتجاوز دور العبادة او لاتفرض بالعنف على من يخالفهم الرأي. النقطة الاساسية هي عدم تديين السياسة او تسييس الدين. وهي بهذا الشكل لاتدعو للإلحاد او الانحلال كما يزعم البعض.

الدولة الوطنية الحقة لا يجوز ان تبنى على منح الدين وأتباع أي دين في أية دولة مهما بلغ عددهم امتيازات، فهذا الأمر يتنافى مع مبدأ الدولة الوطنية، ففي الهند أكثر من 85% من السكان هندوس، والديانة الهندوسية ديانة قديمة جدا من 1400 ق. م، اعتمدت الهند (نظاماً علمانياً) ساوى بين جميع المواطنين لأن المجتمع الهندي متعدد الأديان والمذاهب والملل، فنجد رئيس الحكومة الهندية الحالي من طائفة السيخ، والرئيس الهندي مسلم ولم يحتج أحد مشايخ الهندوس لأن الدستور لا يعطي امتيازات لأي دين..

العلمانيةهي محصلة نضالات الشعوب على مدى قرون طويلة ضد الظلم والإستبداد بكل أنواعه الديني والسياسي والإقتصادي وهي حاليا من أفضل أشكال الدولة التي تتيح للفرد والجماعات الحق في ممارسة نشاطاتها الدينية والاقتصادية والثقافية بحرية، منذ زمان سحيق قال الفيلسوف (ابن رشد): ان أول قاعدة حوّلت الإسبان والأوربيين صوبَ النّور، هي المقولة التى حسمت العلاقه مع الدين: (الله لا يُمكن أن يُعطينا عقولاً، ثم يُعطينا شرائع مُخالفه لها) أمّا القاعدة الثانية، فهي مقولتهُ التي حسمت التّجارة بالأديان: التجارة بالأديان هي التجارة الرائجة في المُجتمعات التي ينتشر فيها الجهل، فإن أردتَ التحكم في جاهل، عليك أن تُغلّف كلّ باطل بغلافٍ ديني.

اذا كانت العلمانية تعني ماذكرناه، لماذا تشن السلطة الدينية والمتعاونون معها او المستفيدون منها حملة واسعة تستهدف تشويهها ان لم نقل ادانتها. اعتقد ان السلطة الدينية التي تمسك بمفاصل الحياة السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية والتعليمية بشكل خاص ترى ان العلمانية تشكل خطرا على ان تفقد سلطتها او تحد منها. لذلك تسعى بكل مااوتيت من قوة في محاربتها.

تعتبر السويد من البلدان الرائدة في مجال العلمانية : الدين مفصول عن الدولة والمجتمع، زواج مدني لمن يريد، حقوق وواجبات متساوية لجميع المواطنين بغض النظر عن خلفياتهم الدينية، الاثنية، الحق في ممارسة الشعائر الدينية ضمن دور العبادة بحرية. الحق في تولي جميع المناصب السياسية او الاجتماعية الاقتصادية بغض النظر عن الانتماء الديني او الاثني…. التعليم /المدرسة مفصولة عن المؤسسة الدينية… يتم تدريس مادة الأديان كجزء من العلوم الاجتماعية… لايتم فصل الطلاب خلال هذه الدورس على اساس الدين.

هذا هو المفهوم النظري والتطبيق العملي للعلمانية…. والدعوات التى تجيش ضدها او تحاربها بشكل علني او مستتر لها اجندات اخرى ترمي كي تبقى مجمعاتنا اسيرة الجهل وصراعات دينية او طائفية كي يسهل السيطرة عليها، كما تعرقل تطورها السياسي، الاجتماعي والاقتصادي كما العلمي.

اتمنى من جميع المهتمين بقضايا العلمانية المساهمة في النقاش حولها، كما اتمنى من مختلف وسائل الأعلام الوطنية تخصيص حيز للعلمانيين مساوٍ لما تخصصه للبرامج الدينية. كي يتم ايصال فكرة العلمانية للجميع بشكل موضوعى وصحيح. من المفرح حقا تنامي النقاش حول هذه المسألة عبر المواقع الإلكترونية، المنتديات ونشاطها، المحاضرات وما الى ذلك وان كانت المساحة المتاحة لها مازالت ضيقة او يجري التضييق عليها. دائما هكذا الافكار الجديدة تشق طريقها بصعوبة بداية… لكن لابد من السير فيه من اجل وطن علماني ومدني بحق..

  ارحب بآرائكم!

العدد 1104 - 24/4/2024