بث الفوضى عبر تقزيم الطبقة الوسطى

الدكتور سنان علي ديب: 

المآل الذي وصلت له النفسية العالمية وأغلب البلدان والتي كانت في مراحل جيدة من التنمية والتطور لم يكن عبثياً أو بسبب ظروف آنية، وإنما هو انعكاس حقيقي لسياسات معولمة فرضت على هذه البلدان بالترغيب أو الترهيب، وذلك لأن أي تطور ونمو لهذه البلدان سيكون ضد مصالح الدول الإمبريالية، وعلى حساب نهبها وسلبها واستلابها، فالتطور سوف يقوي صلابة الدولة ويزيد من استقلالية قرارها ويزيد من قدرتها على استثمار مواردها، فيخف مدى استهلاكها كسوق لتصريف منتجاتهم من جهة، وكذلك يزيد قدرتها على التحكم بثرواتها، وهذه معاكسة للمشروع الإمبريالي الرأسمالي العالمي المتسارع الخطا نحو عرقلة هذه التطورات والتنميات وتدميرها بشتى الوسائل، وغالباً عبر استثمار نقاط ضعف داخل البلدان وخلقها إن لم توجد.

كانت السمة الأساسية لمنظومة البلدان الفقيرة والنامية والساعية للنمو هي السير بسياسات اقتصادية واجتماعية فحواها العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات وبناء الإنسان الوطني المتجذر المبتكر المبدع، وهذا ما ساعدت عليه الظروف العالمية سواء في البلدان التي أعجبت بالتجربة الاشتراكية أو الأممية الشيوعية والتي أطرت القوى المنتجة وخاصة العمال والفلاحين وقوتهم واعتبرتهم أساس النمو والتنمية، وسنت القوانين والتشريعات المؤدية لهذه الغاية المنشودة، وكذلك اضطرار البلدان الغربية لسياسات مانعة للتصادمات بين مالكي رؤوس الأموال والعمال لتطبق الوصفات الاشتراكية مضطرة لعدم اكتساح الفكر الاشتراكي والشيوعي لبلدانها. وكان لها ما أرادت، فوصلت إلى مرحلة تفشيل التجربة السوفيتية، وجمعت الإمبريالية قواها مستهدفة فرض سياسات اقتصادية واجتماعية ليبرالية، الغاية منها استعمار بشكل جديد أقذر وأكثر حقداً مما سبق عبر تدمير البنى الاجتماعية وتفقير البشر وتحطيم الحجر، وأسوأ ما سعوا إليه هو تدمير وقتل الطبقات الوسطى عماد المجتمعات وأس صلابتها وجسر تقدمها ومناعتها الداخلية أتجاه أي عدو خارجي. وكانت الوصفات الممهورة بالختم العالمي والمكتوبة أمريكياً جاهزة، والهادفة لتحرير الاقتصاد بما لا يضر بمصالح المعولم: قتل القطاع العام، رفع الدعم عن المنتجات، تعويم العملات المحلية، وتقويض دور المنظمات والمؤسسات الكابحة والموازنة بين حقوق العمال وأصحاب العمل، وكذلك فرض قوانين تعرقل قوة واستقرار طبقة العمال والكادحين، إضعاف دور الحكومات في قيادة المجتمع. وتبنت مؤسسات البنك الدولي وصندوق النقد هذه الوصفات ولحقت بمؤسسات المجتمع المدني التابعة والسائرة بالدور نفسه، والتي تساعد بتلميع وتقوية شخصيات بعيدة عن السلطات لتكون ركائز مستقبلية للمشاريع الإمبريالية، ولتصاب أغلب البلدان بتصدع كبير وتهشيم للطبقة الوسطى التي كانت هي الغالبة والمسيطرة، وتنال منها من المعايير المالية والأخلاقية والقيمية، وقد نجم عن ذلك تناقضات داخلية في البلدان أفقدتها مناعتها تجاه أي اعتداء، وفتحت بوابة لتمرير مشاريع أقذر وأكثر لا إنسانية وأصيبت هذه البلدان بأمراض مستعصية إذ ينال الفقر من أغلب سكانها، والبطالة عنوان لأغلب قواها العاملة. وكانت أدوات الترغيب عبر مساعدات وقروض لأغلب البلدان، وبالتدمير والقتل لمن لم يسر بهذه الإملاءات، وأصبح العالم غابة قوانينها تسنها القوة المسيطرة، وأي تجاوز ثمنه الدمار. وهكذا استطاعت قوى العولمة تدمير وتقويض ما استغرق عقوداً من النضال والبناء وبذل الغالي والرخيص بوصفات غايتها التحكم والسيطرة وزيادة الابتزاز والتبعية والاستلاب وباتخاذ العقوبات والحصارات اللاشرعية سلاحاً، وبالاعتماد على أدوات غير منتمية لهويتها الجغرافية وإنما لمشغلها من متمركزي رؤوس الأموال. وكان أس أفكارهم تهشيم دواخل البلدان وضرب الاستقرار عبر قتل الطبقة الوسطى وضرب وتقويض دورها ومنع تأطير وتنظيم أي صراع طبقي قادم، وتحويل الصراع من أفقي كصراع طبقي بنّاء، إلى صراع عمودي مدمّر للبلاد والعباد. وقد يكون جزء من أهدافهم اللا إنسانية قد تحققت في فرض البرامج القاتلة للبلدان والمحطمة للطبقة الوسطى، وفي توهم تحييد الصراع الطبقي ليأخذ إشكالاً أخرى، ولكن الأوضاع المأساوية اللاإنسانية والوضع التفقيري الذي نجم عنهم بأحجامه المخيفة واللااستقرار النفسي والاجتماعي والاقتصادي أفرز معاناة قاسية ملأت النفوس بالأحقاد اتجاههم واتجاه أدواتهم التي لن تستطيع الاستمرار بهذه الاساليب والبرامج لأن عدم استقرار المجتمعات سينعكس عليهم، وبالتالي الصراع الطبقي المنظم المنضبط المقونن قد يتحول إلى كوارث وصراعات تأخذ أبعاداً أخرى تنال من الأشخاص والأموال وقودها اسوداد العقول والقلوب الناجمة عن تفقير منظم وعن ابتزازات واستلابات وتهميشات. والوصول لهذه المراحل سينعكس على المشروع العالمي وسيرورة الإنسانية والبشرية تجعلك تستنبط أن هذه الرؤية هي الأقرب وهي الانعكاس الصحيح لقتل الطبقة الوسطى موازن المجتمعات وعماد التنمية والنمو وعنوان العدالة الاجتماعية وجسر الانطلاق التنموي بكل أبعاده، وعدم إعادة بنائها سينجم عنه كوارث تواجه العولمة المتأمركة بأدوات وردات فعل أكبر من الصراع الطبقي المقونن المنضبط.

 جمعية العلوم الاقتصادية

العدد 1104 - 24/4/2024