من القلب إلى القلب.. أسرار آن أوان البوح بها: عندما وقع محافظ دمشق عن الكرسي!

عمـاد نـداف:

لم يكن في بيتنا أثاث مبالغ فيه، كان كلُّ شيء متواضعاً، ففي غرفة الجلوس مثلاً كان أبي قد وضع مقعداً خشبياً طويلاً كنا نسميه (القاطع)، وكان قد صنعه بنفسه من الخشب الرخيص، أي خشب (الباطون)، ومغطى بفرشة طويلة وغطاء من قماش (الكريتون) الشعبي، وكان هذا (القاطع) أفضلَ مكان لجلوسنا، وأحياناً للنوم عليه، فهو موجود في الموزع الذي يفصل بين غرفتي النوم الوحيدتين.

كان هذا الموزع بمثابة غرفة جلوس واستقبال بآن واحد، وكان أثاثها بسيطاً: إلى جانب (القاطع) الأول (قاطع) ثان صغير، وطاولة خشبية عليها راديو (كرونديك) ومدفأة مازوت (أم بطيخة)، وكرسي واحد!

بمعنى آخر، كان بيتُنا متواضعاً، وكان دخل أبي الذي انتقل من التعليم إلى إحدى مؤسسات الدولة، لا يكفي لإعالة أسرة من ستة أشخاص ينتشرون من الصف الأول الابتدائي إلى الإعدادية. ومع ذلك كانت حياتُنا سعيدة، وكنا قنوعين بما نحن فيه، وقد بُني بيتنا على الكرم، وكان يغصُّ بالضيوف بين يوم وآخر، وكان الضيوف يجلسون معنا، حتى الغرباء منهم وحتى ذوو الشخصيات الاعتبارية كمحافظ دمشق (منذر قولي)، صديق أبي، الذي كان يزورنا بين شهر وآخر، ويعبر عن راحته وسعادته بزيارتنا وتناول طعامنا الطيب!

كانت زيارة المحافظ، وكان يسمّى وقتذاك: (أمين العاصمة)، تستنفر البيت كله، فكانت أمي تعدُّ العشاء، وريثما يأتي موعد العشاء كانت تقدم الشاي والفواكه، وكان المحافظ يمضي أحياناً قرابة ساعتين يفضفض فيها عن متاعبه لأبي، وكانا يتحاوران في آخر المستجدات من حولنا وخاصة أن حرب حزيران عام 1967 كانت على الأبواب، وكانت خطابات جمال عبد الناصر موضوع حوارات الساعة في ذلك الوقت!

ذات مساء حلَّ المحافظُ ضيفاً على غفلة، ولأن بيتنا كان يفتقر إلى التليفون، طرق المحافظ الباب دون موعد، وسأل عن أبي الذي كان نائماً، وهكذا دبّت الحركة في البيت، ودخل المحافظ، وجلس تلقائياً على كرسي إلى جانب الطاولة، وفتح الراديو ثم أغلقه بينما كان أبي يبدل (البيجاما) ببنطال ليدخل الغرفة ويرحب بصديقه!

من النافذة، راقبتُ أنا وشقيقتي ابتسام وضعَ الغرفة، فإذا بالمحافظ وقد جلس على الكرسي المكسور الذي كان أبي ينوي إصلاحه بوضع عارضة قوية بين القائمتين الخلفيتين، ولكنه لم يكن قد فعل ذلك بعد!

همست أختي تحذرني: سينكسر الكرسي تحت أمين العاصمة!

وقلت لها متحمساً: سأدخل وأخبر أبي..

لكنها احتجت بأن ذلك سيفضحنا عندما يعرف أن لا كرسي آخر لدينا، وهذا يعني أنه سيجلس إلى جانب أبي على (القاطع) وكأنهما في كرسي واحد من كراسي باصات الهوب هوب، وأقلعنا عن الفكرة، ونحن نترقب ما سيحصل ونحاول البحث عن حل!

جاءت الفكرة، وكانت من اقتراحي: فعندما تنتهي أمي من طعام العشاء، سأُدخلُ أنا العشاء وأطلب من أمين العاصمة أن يتفضل بالجلوس على القاطع، وأسحب الكرسي من التداول، فأنقذ الموقف، وهكذا كان.

كان المحافظ منهمكاً بعرض توقعاته عما سيفعله الرئيس عبد الناصر، ودخلتُ أحملُ العشاء على صينية كبيرة من الألمنيوم، جلب أبي الطربيزة الصغيرة ووضعها بينه وبين المحافظ، فوضعتُ الطعام على (القاطع)، وطلبتُ من أبي أن يجلس المحافظ بجواره، فأشار لي أبي بالخروج، ولم ينتبه المحافظ إلى رغبتي، رغم أنه سألني عن دروسي ومدرستي، فقلت له محمر الوجه: مليحة!

وما إن خرجتُ من الغرفة، وتحرك المحافظ على كرسيه، وهو يهم بتناول الطعام حتى انهار الكرسي دفعة واحدة، وهوى المحافظ على الأرض، وكادت قدمه تضرب السفرة وترمي ما عليها فوق ثيابه.

ضربت أختي على رأسها، ورحت أعضُّ أصابعي، فيما هرع أبي ليساعد المحافظ على النهوض، وهو يردد: يا لطيف، يا لطيف!

نهض المحافظ لاهثاً، وبحث عن أسباب وقوعه، فاكتشف أنه الكرسي، فضحك، وقال لأبي:

الكرسي الذي عندك (مخلخع) مثل كل كراسي المسؤولين، ما إن نتولى منصباً حتى يزحط الكرسي تحتنا!

وضحكا، ثم جلسا على (القاطع)، وأعاد وضع السفرة بينهما، وعادا إلى تناول الطعام، ومتابعة الحديث عن الوضع العربي الرديء!

العدد 1104 - 24/4/2024