الصورة والمشهد

د. صلاح صالح:

 ما نعيشه من قحط ثقافي، مؤقت أو مديد، يجعلنا نتساءل عمّا يمكن أن تكون عليه حالنا الجمعيّة داخل الفراغ المتأتّي عن غياب المبدعين الكبار، قديماً وحديثاً.

نعم، يصعب على واحدنا أن يتخيّل ما يمكن أن نكون عليه من فقر وبؤس لو لم يكن في تراثنا أمثال امرئ القيس وأبي تمّام والمتنبي، وسواهم. ويصعب علينا في موازاة ذلك أن نتخيل ما يمكن أن تكون عليه حياتنا المعاصرة من فقر وإقفار وبؤس لو لم تتحلّ بوجود حنا مينه وأمثاله، ممّن ساهم في ضخّ النسغ الحيّ داخل شرايينا المبتلاة بيباس مزمن عمره يربو على ألف عام. لن نظلّ في الإطار العام، إذ لا مفرّ من الوقوف لدى المشهد السوري، في عموميّته وتفاصيله، التي استيقظ خلالها جيلنا على حراك ثقافي شامل تحلّى بأسماء كبيرة، كان في موقع الصدارة منها اسم حنا مينه الذي أرسى تقاليد راسخة بشأن القراءة ومتابعتها، لدى شريحة واسعة من مختلف الأعمار والسويّات الثقافيّة. لا أميل إلى المبالغة بخصوص رصد واقع يعرفه الجميع. هذا الواقع الموضوع تحت العين الراصدة يمدّنا بأن حنا مينه هو أبرز المساهمين السوريين في جعل فن الرواية على وجه التخصيص جزءاً أساساً من (الأدب)، بمفهومه الدقيق، بعد أن اقتصرت فكرة الأدب على الشعر وحده في موروثنا الثقافي حوالي سبعة عشر قرناً. وعلى ذلك، لم يكن من اليسير أن يتأتّى لحياتنا الأدبية المعاصرة أن تستقبل فنّاً آخر، هو فن الرواية الذي نظر إليه البعض بوصفه فناً دخيلاً، أو مدسوساً. ولنا أن نتخيّل عظمة الإسهام الذي قام به حنا مينه بخصوص جعل الرواية عموماً، ورواياته خصوصاً، جزءاً لا يمكن فصله عن مفهوم الأدب، بالتوازي مع جعل قراءة الرواية عموماً، ورواياته خصوصاً، نشاطاً (تقليدياً) من الأنشطة اليومية التي يمارسها المواطن السوري.

لا أذكر ما أذكره في السياق الآنف على طريقة استحسان التذكير بمحاسن المفقودين، على الرغم من أنّ المفقود بمنزلة قمر أطال المكوث في صيغة المحاق. ولكن الواقع الثقافي السوري، الذي أدّعي أنني خبرته بدءاً من النصف الثاني من عقد الستينيات من القرن الماضي، يجعلني أصرّ على الدور الريادي الذي لعبه حنا مينه في جعل القراءة عموماً، وقراءة الرواية خصوصاً تقليداً يوميّاً لشريحة ذات طيف واسع من الأعمار والمستوى الثقافي والانتماء السياسي. وما يجعلني أصرّ على إبراز هذا الشأن هو فداحة ما تعيشه سورية من نكوص مريع على مستوى الانتماءات الضيّقة الملوّثة بمختلف الآفات، والانحرافات، نكوص يمكن اعتماده أساساً لمقايسة مؤلمة: إذا كانت حياتنا قد استنارت بوجود حنا مينه وأمثاله في تفاصيلها، وآلت إلى ما آلت إليه اليوم، فما مستوى الحال التي يمكن أن تكونه لو لم يكن حنا مينه ركناً متيناً من الأركان التي أرسي فوقها المشهد الثقافي السوري؟

في تراثنا الثقافي الثري، كانت الصورة الوامضة هي المستأثر الأبرز بألباب المتلقّين: كالهمّ في صورة بعير جاثم على صدر المهموم في معلقّة امرئ القيس، والصحو الذي يقطر مطراً في إحدى قصائد أبي تمام. بمعنى أن حياتنا الثقافية القديمة لم تكن تأبه عموماً بتصوير المشاهد الحيّة بوصفها حياة موازية للحياة الواقعية، مع استثناءات قليلة يمكن التمثيل عليها بقصيدة الحطيئة الميمية (وطاوٍ ثلاثاً عاصب البطن مرملٍ)، وقصيدة أبي نواس التائية (وفتيةٍ كمصابيح الدجى غررٍ/ شمّ الأنوف من البيض المصاليتِ). وعظمة فن الرواية بوصفها فناً أدبياً قائمة على أنها مفعمة بالمشاهد التي تصنع حياة ورقية موازية للحياة الواقعية. لكنها أكثر اجتذاباً وقدرة على التأثير في المتلقي. وعلى ذلك، أزعم أنّ القارئ العربي لا يمكنه أن يغفل المشاهد الكثيفة الحيّة التي باتت جزءاً من تكوينه الثقافي والوجداني، بعد أن استطاعت روايات حنا مينه أن تحفر تلك المشاهد العميقة في المخيلة والوجدان على حدّ سواء.

العدد 1107 - 22/5/2024