مصر… حركة الشارع وقواه الحيّة ضد «الأخونة»

تتواصل التفاعلات في مصر، وتزداد حدة ما بعد انتصار ثورتها في كانون الثاني عام ،2011 التي ساهمت في إنجازها عوامل كثيرة، بدءاً من الانتفاضة الشعبية، مروراً ب(حياد) المؤسسة العسكرية، إلى المواقف الإقليمية والدولية المؤثرة، في حدود ليست قليلة، في إسقاط نظام حسني مبارك وحزبه الوطني. وإن كانت حركة الشارع قد تقدمت على مجموع القوى والأحزاب والرموز السياسية، فإنه يسجل للعديد منها قيادتها للحركة الشعبية، وتلكؤ بعضها (نقصد حركة الإخوان المسلمين) في الالتحاق بهذه الهبة الشعبية. إلى أن اتضحت معالمها، كذلك العوامل الأخرى التي ساعدت في نجاحها. ونظراً للعوامل العديدة المصرية الداخلية، المرتبطة إلى حد ليس قليلاً، بكيفية تعاطي النظام السابق مع قوى التقدم والديمقراطية الحقيقية، وإضعافها تاريخياً، كذلك غيرها من الأسباب الحزبية والإمكانات الداخلية، والتأثير الإقليمي، استطاعت حركة الإخوان المسلمين، ممثلة بحزبها (الحرية والعدالة) تبوؤ قيادة الهيئة الشعبية، ولو متأخراً، والتي أطاحت بالنظام السابق، وأن تشغل موقعاً تقريراً على صعيد البرلمان، ثم الرئاسة ممثلة بمحمد مرسي.

ومثل هذا الانفراد الإخواني بالسلطة الجديدة ومحاولات الهيمنة على مؤسساتها الرئاسية والحكومية والدستورية.. إلخ، عامل هام في التفاعلات الشعبية والحزبية والسياسية التي أعقبت إسقاط النظام السابق، والانتقال تالياً من نظام شمولي سابق، إلى نظام إخواني أكثر شمولية وانعكاساته على حركة الشارع وقواه وأحزابه.

ويؤكد الحراك الذي يشهده الشارع المصري، والذي يزداد حدة في أسابيع الإضراب وأيام الجمع وشعاراتها، تعبيراً عن عمق الأزمة التي تعيشها مصر ما بعد التغيير، وإمساك الحركة الإسلاموية بمقاليد السلطة، ومحاولاتها فرض نظام لا يختلف سياسياً عن سابقه، إنما يمثل تراجعاً اجتماعياً هاماً، ويؤشر إلى استمرار الحركة الشعبية بقواها وأحزابها ورموزها المطالبة ب(التشاركية) والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، والرافضة لنظام الحزب الواحد الإخواني و(أخونة) الدولة، وهمينته على مفاصل الدولة ومؤسساتها.

كما تؤكد الشعارات التي يرفعها هذا الحراك أن الأمور تتجه نحو أزمة جديدة في مصر، عنوانها طبيعة توجهها، وتالياً سياساتها الاقتصادية – الاجتماعية، وانعكاساتها على الشارع المصري المطالب بالديمقراطية الحقيقية. وقد أوصل هذا الاختلاف والتناقض بين النظام الشمولي الجديد وحركة الشارع المصري إلى هبات شعبية متواصلة في العديد من المدن والأرياف المصرية، وبضمنها العاصمة القاهرة، وميدان التحرير، رمز الثورة، قبل عامين، وصولاً إلى إعلان العصيان المدني في العديد من المناطق.. كذلك إلى اتساع هذه الحركة واتضاح شعاراتها، المترافقة مع تبلور الفرز في الحركة الحزبية- السياسية المصرية، وقيام جبهة الإنقاذ برموزها وقواها وأحزابها، والتي باتت تمثل تياراً لا يستهان به في الحراك الدائر في مصر، الرافض ل(أخونة) الدولة ومؤسساتها وللانفراد بالسلطات القائمة.

وتشير التطورات الجارية، وخاصة في أسابيعها الأخيرة، إلى حالة من الحراك اللاسلمي، والمتمثل في اقتحام واحتلال مراكز حزب الحرية والعدالة، والصدام مع ميليشيات هذا الحزب، في ظل (حياد) غير واضح المعالم للجيش وقوى الأمن المصرية، المتزامن مع إعلان حالة الطوارئ في العديد من المناطق.. هذا في الوقت الذي تحاول فيه مؤسسة الرئاسة والحكومة الالتفاف على المطالب الشعبية- الحزبية، من خلال الدعوة إلى حوارات مع قوى الشارع، تحاول بواسطتها تهدئة الأوضاع الداخلية المصرية، بهدف ترسيم ما هو قائم، أو إدخال بعض التعديلات الطفيفة على توجهها الإخواني.

وشكل رفض جبهة الإنقاذ، وما تمثله لدعوات الرئيس الإخواني (حكم المرشد) الجارية، دعماً لحالة النهوض والتظاهر المستمرة منذ شهور طويلة، وتعبيراً عن انسجام أطرافها (أو غالبيتها على الأقل) مع مطالب الشارع، ورفض الأخونة وتبعاتها ومخاطرها.

وتؤشر الحالة الراهنة إلى استمرار حركة الاحتجاج ضد سياسة الأخونة ونهجها وحكومة هشام قنديل ومؤسسة الرئاسة، ورفض الدستور الذي لم تشارك في صياغته. ورغم الحرج الذي يواجهه تيار (الأخونة) رئاسياً وحكومياً، المترافق مع اتساع الاحتجاجات الشعبية، وتماسك مواقف القوى الليبرالية واليسارية والتقدمية على اختلاف تلاوينها، فإن الصعوبات الاقتصادية – الاجتماعية، وتالياً السياسية التي يواجهها نظام مرسي والإحجام الإقليمي والدولي، في حدود ليست قليلة، عن دعم نظام غير مستقر بالحد الأدنى، ويواجه أزماته الداخلية على كثرتها وتنوعها.

وتؤكد منطقياً استمرار هذه الأزمة المصرية الداخلية، بعد أن اتضحت معالم هذا النظام، وتراجع شعبيته وفشله في إنجاز وعوده خلال أيام الثورة.

ويزيد من حرج النظام القائم مواصلته لسياسة النظام المخلوع الإقليمية والدولية، خلافاً لما طرحه الإخوان والحركة الإسلاموية أيام الثورة، وبخاصة علاقات مصر مع جوارها، وكيفية تغاضيها عن شعاراتها السابقة من إسقاط اتفاق كامب ديفيد، إلى إلغاء اتفاقية الغاز المشينة مع إسرائيل، مروراً بانحيازها السافر للمجموعات الأصولية المتطرفة في العديد من الدول العربية، وخاصة سورية.

إذاً صراع وتناقض مفتوح على مصراعيه، بين قوى الحداثة والتقدم، التي بادرت إلى إسقاط النظام السابق، وبين القوى الأصولية والسلفية، والعودة ثانية إلى نظام شمولي أكثر تخلفاً.. ولا يبدو أن القوى الإقليمية و(الدولية) تنظر بارتياح إلى هذه الأزمة وتداعياتها، التي تطالب أطراف أساسية فيها باستعادة شعارات الثورة، وعدم خطفها من قوى رجعية أكثر تخلفاً.

وهو في الوقت نفسه صراع حول تحديد توجه مصر الاقتصادي- الاجتماعي، كذلك علاقاتها مع محيطها والعالم، وهذا ما يؤكد صعوبة بين تيار التقدم والديمقراطية وتيار العودة إلى الوراء أياً كانت شعاراته الظاهرية.. وأن استمرار هذا الغليان الشعبي وتعبيراته، والمواقف الصحيحة لأطراف في المعارضة، ستدفع باتجاه تحديد هوية مصر بعد عامين على انتصار هبتها الشعبية، وبأن حركة الشارع وقواه الحية هي المقررة أولاً وأخيراً.

العدد 1107 - 22/5/2024