من الصحافة العربية العدد 598

بايدن وأوباما وإسرائيل

(لو لم تكن إسرائيل موجودة لكان على الولايات المتحدة إيجادها). بهذه العبارة خاطب نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن منظمة (جي ستريت)، وهي النسخة (اليسارية) ل (آيباك)، في مؤتمرها السنوي بواشنطن.

بايدن لم يُخفِ يوماً حبه للدولة العبرية، ويتباهى بأنه صهيوني مؤمن منذ قرأ الكتاب المقدس صغيراً. تجذرت صهيونيته حين التقى غولدا مئير، فور انتخابه عضواً في مجلس الشيوخ في مطلع سبعينيات القرن الماضي. ترجم هذا الانتماء عملياً عندما اقترح تقسيم العراق إلى ثلاث دول. وعندما تبنى في مجلس الشيوخ (قانون تحرير سورية ولبنان). وكان الهدف من ذلك شلّ أي قدرة عسكرية عربية تشكل خطراً على إسرائيل. وقد تحقق له ما أراد. العراق قُسّم عملياً، وما زال غارقاً في دماء أبنائه وفي الفتنة المذهبية التي انتقلت إلى سائر المشرق، ويتوقع أن تنتقل إلى باقي العالم الإسلامي. أما سورية، فأصبحت على بعد عشرات السنين من إمكان تشكيل خطر على أي دولة أو دويلة، هذا إذا خرجت من محنتها موحدة.

لم تكن صهيونية بايدن وحدها وراء ما (أنجز) في العراق وسورية. فالإدارات الأمريكية المتعاقبة كلها صهيونية، في هذا المعنى. همها حماية إسرائيل ومصالحها. ولسنا في حاجة إلى أدلة لإثبات ذلك. فليس من رئيس أو نائب رئيس أو وزير خارجية أو مسؤول، كبيراً كان أم صغيراً، يستطيع مخالفة هذه السياسة. حتى إن الصحفيين لا يستطيعون ذلك. ومن يخالف هذا النهج يطرد من عمله ويتهم باللاسامية.

قبل كل ذلك، نحن العرب مسؤولون عن كل هذه المآسي والفتن والحروب. أدمنّا التدمير الذاتي. لم نستطع بناء دول مستقلة ذات سيادة. الولايات المتحدة أو غيرها، تستغل هذا الواقع لمصلحتها ولمصلحة إسرائيل.

متسلحاً بكل هذه الإنجازات، من تدمير العراق وتقسيمه، إلى تدمير سورية وليبيا، إلى التخلي عن فلسطين وقضيتها التي كانت مقدسة ذات يوم، وقف بايدن، مخاطباً اليسار الصهيوني الأمريكي ممثلاً ب(جي ستريت) ليؤكد ولاءه مرة أخرى، وليعلن أن (الولايات المتحدة تقف مع إسرائيل ومن أجل إسرائيل، وهي شأنها شأن منظمة (جي ستريت)، لديها التزام بالسلام العادل، فإن لم نفعل ذلك نحن، فمن يفعله؟). وأضاف: (قد تبدو الإدارة كأنها أعادت صوغ نهجها في الشرق الأوسط، إلا أن موقفنا تجاه إسرائيل لم ولن يتغير).

وفيما كان بايدن يخاطب المنظمة الصهيونية، كان باراك أوباما يعقد اجتماعاً مع نتنياهو في البيت الأبيض، ليطمئنه أيضاً إلى أن التزام إدارته بأمن إسرائيل ومصلحتها لا يتزعزع، وأن تراجعه عن شن حرب على سورية هو لمصلحة بلديهما. فدمشق أصبحت مشلولة ومعزولة دولياً. وتدمير مخزونها الكيماوي ضربة قوية لها ولإيران وحلفائهما. والتنظيمات المسلحة التي تكاثرت كالفطر كفيلة بالقضاء على أي بادرة للاستقرار فيها. والعراق نموذج لما يمكن أن يكون عليه المشرق كله. أما إيران (المعتدلة) في عهد روحاني فلن تشكل خطراً، لا الآن ولا في المستقبل. برنامجها النووي سيكون تحت المراقبة. وإضعاف سورية يشكل عقبة كبيرة أمام طموحاتها في الشرق الأوسط. والأهم من ذلك أن العرب سيتصدّوْن، بمساعدة واشنطن لأي مغامرة تخطر في بال طهران.

لذا لا بأس من محاولة احتوائها بالمفاوضات وبالدبلوماسية. وتعهد الرئيس أن لا تقدم واشنطن على أي خطوة للتقارب معها من دون استشارة حليفها الدائم.

تسري في أوساط الإدارة الأمريكية، وبعض الأوساط الإسرائيلية، نظرية خاصة جداً، مفادها أن على واشنطن إنقاذ إسرائيل من نفسها حين تتمادى في سياساتها، أو تسيء استخدام قوتها. الشرق الأوسط الآن غارق في دماء أبنائه، فلندع بعضه يقضي على بعض، ولنساعده في ذلك قدر الإمكان من دون أن نتورط في حروب نعرف كيف تبدأ ولا نعرف كيف تنتهي.

أوباما وبايدن من أصحاب هذه النظرية. هما يحميان إسرائيل من نفسها ومن أعدائها.

مصطفى زين

عن (الحياة)، 5/10/ 2013

 

الشيوعية.. والإسلام.. وجدتي

لم تقرأ جدتي القرآن ولا كارل ماركس ولا أي كتاب، مع ذلك كانت تحكم بالعدل في كل نزاع يحدث بين الرجال في عائلتها أو قريتها. إنه تقليد موروث في الريف المصري منذ عصر إزيس، إلهة الحكمة ومعات إلهة العدل.

الإحساس بالعدالة صفة إنسانية طبيعية، كالإحساس بالحب والحرية والكرامة والمساواة.. لكن لعبة الأحزاب والحكم تفسد الإحساس بالعدالة لدى أغلب المشتغلين بالسياسة. ولم تعد العدالة تعني المساواة الحقيقية بين الناس (بصرف النظر عن الدين أو الجنس أو الطبقة)، بل أصبحت العدالة هي التوازن بين القوى الحزبية المتنافسة على الحكم.. المتمرسة على الموازنات لتحقيق التوافق بينها وتوزيع المقاعد والمناصب حسب قوة كل منها، وليس حسب العدالة. وحزب النور السلفي (يرى وجه المرأة عورة)، ونشأ (ضد القانون) من أقلية قليلة بعد كانون الثاني 2011 – يحظى بوزن سياسي في لعبة التوازن (داخل لجنة الدستور). أكبر من نصف المجتمع. أربعون مليون امرأة وأكثر.

أغلبية الشعب المصري خارج الأحزاب، بحكم القانون الذي يمنع نصف المجتمع (النساء) من تشكيل حزبهن، ويفرض شروطاً مادية وسياسية متعسفة لا يقدر عليها العمال والفلاحون والأجراء، بحكم فقرهم وجهلهم بألاعيب السياسة. وقد نشأت أنا بين طبقتين. طبقة أبي من الفلاحين الفقراء – وطبقة أمي من (البهوات) في القاهرة والأعيان أصحاب الأرض في الريف. لم يكن للفلاحين الفقراء دور في السياسة. إلا أن يحشدهم الباشا أو البيه صاحب العزبة كي يصوتوا له في الانتخابات. وينجح الباشا أو البيه بعد أن يقدم للفلاحين وعوداً (كاذبة) بتحقيق مطالبهم. ويدور النقاش في البرلمان حول أبسط حقوق الفلاحين حينئذ. فيعترض النواب البشوات صائحين: هذه بلشفية. هذه شيوعية.

وفي بيتنا كان الصراع الذي يدور بين عائلتَيْ أبي وأمي أشبه بالصراع في مجلس النواب. تقف عائلة أمي مع البشوات والبهوات والملك فاروق يؤيدونه. لأن اللَّه معه في كل خطواته. وتقف عائلة أبي ضد الملك والحكومة على رأسهم جدتي التي تقول: (لا يمكن ربنا يكون مع الظالم). يرمقها الرجال في استعلاء. ذوو البدل الأنيفة (والبايب بين شفاههم الندية). كيف تشارك الفلاحة العجوز في النقاش السياسي؟ لكنها لا تأبه بهم وتواصل دفاعها عن العدالة البسيطة البديهية. وإن قال لها أحدهم إنها لم تقرأ القرآن ترد جدتي: ربنا هو العدل عرفوه بالعقل وليس بالكتاب. وأصبحت جدتي الفلاحة شيوعية ملحدة مثل ابنها (أبي) في نظر رجال السياسة من عائلة أمي. رغم أن أبي لم يكن شيوعياً ولا علاقة له بأي حزب. لكن تهمة (الشيوعية والإلحاد) كانت تلصق بأي شخص ينطق كلمة (فقر) أو طبقة كادحة. هذه كلمات تؤدي إلى السجن. ما بال (نظام طبقي أبوي) قائم على الاستبداد الذكوري المطلق في الدولة والأسرة؟

إنها الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن العشرين، والصراع دائر بين الشيوعية والإسلام في عالم منقسم إلى كتلة شرقية بزعامة الاتحاد السوفييتي، وكتلة غربية رأسمالية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية. أما المستعمرات في إفريقيا وآسيا (ومنها مصر تحت الاحتلال البريطاني) فكانت تابعة للقوى الاستعمارية. اخُتزل الإسلام (في نظر القوى الرأسمالية) إلى أداة لضرب الشيوعية. واختزلت الشيوعية (في المستعمرات بالعالم الثالث) إلى دعوة للإلحاد. وضربت كل حركة شعبية مصرية تدعو للعدالة والتحرر الوطني، حتى جمال عبد الناصر اتُهم بالشيوعية بواسطة القوى الخارجية والطبقة العليا في الداخل. وشُجّع الإخوان المسلمون والإسلام السياسي (داخلياً وخارجياً) للقضاء على الحركات الوطنية المصرية وجمال عبدالناصر حاولوا اغتياله جسدياً وسياسياً. حتى هزيمته في حرب 1967 – ثم موته بعد ثلاث سنوات. ليأتي الرئيس المؤمن (السادات) الذي شجع جماعات الإسلام السياسي (مع قوى الاستعمار) بضرب القوى الوطنية للتحرر والاستقلال تحت اسم مكافحة الشيوعية.

وجدت نفسي في أيلول 1981 داخل زنزانة السجن بتهمة الشيوعية، رغم أنني لم أدخل في حياتي أي حزب. وأنفر بطبيعتي من ألاعيب السياسة مثل جدتي الفلاحة التي كانت تلخص السياسة في كلمة واحدة (بوليتيكا). تضحك وهي تضرب ابن عمها (شيخ الجامع) على ظهره قائلة: (بلاش بوليتيكا يا خويا). كانت جدتي (وكل القرية) ترى السياسة ألعاباً بهلوانية (بوليتيكة) قائمة على الخداع والمكر. وأن الحكومة تقهر الفلاحين، لأنها تعمل مع الملك والإنجليز والبشوات والبهوات في البرلمان. كانت جدتي وأهل قريتها يتمردون على العمدة، تلوح في وجهه بيدها الكبيرة المشققة. وتقول: فين العدل يا عمدة؟ يلوح بالمصحف في وجهها يتهمها بالجهل، لأنها لم تقرأ القرآن ولا تعرف شيئاً عن العدل. وترد عليه جدتي بعبارتها المأثورة: (ربنا هو العدل عرفوه بالعقل يا عمدة).

لو دخلت جدتي (لجنة الخمسين) لكانت ربما أكثر وعياً بأهمية النص في الدستور على العدل والمساواة الحقيقية بين الناس، وليس التوازن بين القوى السياسية والأحزاب، ومنها (حزب النور)، الذي يرى وجه جدتي عورة.

نوال السعداوي

(الحوار المتمدن)، 2/10/2013

العدد 1105 - 01/5/2024