ثورة 30 حزيران واستمرار «مخاض» الديمقراطية والتعددية الحقيقية

يتواصل الحراك الشعبي في مصر، وخاصة منذ انتصار ثورة 25 كانون الثاني (يناير) عام ،2011 الذي أدى إلى إسقاط نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك، وتبعاته على الصعيد الداخلي المصري، وعلى طبيعة علاقات مصر الإقليمية والدولية. ورغم نجاح ثورة كانون الثاني (يناير) في إسقاط نظام الديكتاتورية ورموزها، فإنها تعرضت لمحاولة سرقة أهدافها، المتمثلة في إقامة مجتمع مدني تعددي ديمقراطي، وبالتالي إحلال قوى شمولية جديدة مثلتها وماتزال حركة (الإخوان المسلمين) وحلفائها في البلاد. كذلك الدعم الأمريكي الرسمي العلني، الذي بدأ نسج علاقاته بهذه الحركة مبكراً، ومنذ سنوات طويلة، و(الغربي) المنضبط في حدود ليست قليلة، بتوجهات الإدارة الأمريكية.

وأدت التفاعلات التي أعقبت انتصار ثورة كانون الثاني (يناير)، إلى إحداث تحولات خطيرة تمثلت في محاولة هذه الحركة (التي التحقت متأخرة بهذه الثورة، بعد أن تأكدت من شعبيتها العارمة، ومن التأييد (الغربي) لها لأسباب عديدة) أخونة البلاد، وممارسة نهج الانفراد والتفرد في السيطرة على الثورة ومؤسسات الدولة (الدستورية، التشريعية، الحكومية، الرئاسية)، وصولاً إلى تحجيم مؤسسات عريقة وطنية وتدجينها، كالقضاء والإعلام، وبناء نظام شمولي ديني- ظلامي، يمثل حالة أكثر رجعية وخطورة من العهد البائد، على صعيد العلاقات الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتعزيز التبعية المصرية رسمياً لتوجهات الدول الرأسمالية، وشروط مؤسساتها المالية الدولية، في تناقض واضح مع شعارات (التشاركية) و(التعددية) التي طرحتها الحركة قبل انتصار الثورة.

وأسفر هذا التعارض بين القائمين على، والمبادرين إلى، ثورة كانون الثاني (يناير) وانتصارها، وبين قوى الردة المتسترة بالشعارات الإسلاموية وتحالفاتها، والعاملة على أخونة مصر ومؤسساتها، إلى تعزيز التناقض بينهما، واحتدامه، وصولاً إلى تشكيل هيئات تنسيقية فيما بينها (جبهة الإنقاذ الوطني بأحزابها ال،15 حركة تمرد الشعبية، شباب الثورة.. إلخ)، والحريصين على تصحيح مسار الثورة. وأسفر تحركها المليوني (تجاوز عدد مؤيديها 32 مليون مؤيد ومشارك) عن ثورة 30 حزيران ،2013 التي حسمت وبشكل واضح حركة الشارع بأهدافه وقواه الديمقراطية واليسارية والوطنية الحريصة على مواصلة التغيير في مصر لمصلحة الطبقات والفئات الأوسع انتشاراً.. فضلاً عن انحياز المؤسسة العسكرية الوطنية، قيادة وأفراداً، التي استشعرت خطر نظام الأخونة وتداعياته على مصر شعباً ومؤسسات وهيئات وطنية، وبضمنها القوات المسلحة المصرية نفسها.

وإذا كانت حركة الإخوان المسلمين (أحد أعرق الأحزاب المصرية وأقدمها) وما تمثله قد استفادت من رفض الشارع  المصري لرموز النظام البائد من جهة، ومن امتداداتها في العالمين العربي والإسلامي، وحجم الدعم الإعلامي الهائل والمؤثر والفاعل.. إلخ، من مشيخات الخليج من جهة ثانية، ومن التناغم الإمبريالي مع هذه الحركة وشعاراتها الضبابية تجاه العديد من القضايا الوطنية والمصيرية والسيادية، بعد استيلائها التدريجي على السلطات ثالثاً.. فضلاً عن تشرذم وتفتت قوى ورموز الثورة المصرية الجذرية الحقيقية.. فقد أوصل ذلك بمجموعه إلى نجاح محمد مرسي رئيساً لمصر عام ،2012 وما أنتجه من تحولات رجعية انفرادية، وتنكره وحركته لشعاراتها الانتهازية الشعبوية السابقة، مما دفع بالشارع المصري وقواه الحية إلى التحرك المليوني (قدر بعشرات الملايين) المطالب بتصحيح مسار الثورة وصيانتها وإنجاز حكومة توافق وطني تعددي ديمقراطي، واستحقاقاته، وتبعاته المصرية الداخلية والخارجية، وإنجاز انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة خلال نصف عام (إذ لا يمكن اختزال الديمقراطية في صناديق الاقتراع، على أهميتها،  فقط ولمرة واحدة فقط)! إنما الديمقراطية تمثل نهجاً يرتضيه الشارع بقواه ورموزه الحية ومصالحه المدافعة الحقيقية عن أهدافه المطلبية المباشرة والاقتصادية – الاجتماعية عموماً.

ومنذ انتصار ثورة 30 حزيران 2013 الشعبية العارمة، حتى تاريخه، تشهد مصر اصطفافات وتجاذبات بين الغالبية الساحقة من جماهيرها الشغيلة والكادحة أولاً، والدور الوطني للقوات المسلحة المصرية الرافضين للاستئثار والتفرد والشمولية، وبين الرافضين للدمقرطة الحقيقية ومواصلة ممارستها على الأصعدة كافة. وأظهرت الشهور القليلة الماضية استماتة الإخوان في التمسك بالسلطة والحفاظ على نتائج انتخابية مؤقتة سابقة، ساعدت في نتائجها الكثير من العوامل الداخلية والإقليمية و(الدولية)، وصولاً إلى الاعتصامات ومحاولة احتلال الساحات العامة وشل حركة البلاد، ومحاولة عسكرة هذا الحراك ما أمكنها ذلك، ومهاجمة مقرات ومؤسسات الدولة، وبضمنها مقرات المؤسسة العسكرية، فضلاً عن تدمير دور العبادة والمؤسسات الدينية وبخاصة الكنائس والأديرة، وتبعاتها السلبية الكارثية على التعايش التاريخي المصري بين الأديان، وبخاصة الأقباط.

كذلك في رفض نهج الحوار الوطني الشامل بين فصائل العمل الوطني، والمطالب أولاً وقبل أي شي آخر، بشرط تعجيزي عنوانه عودة الشرعية الرئاسية المرسية الإخوانية وتحجيم حركة القوات المسلحة، في تناقض واضح مع حركة عشرات الملايين في ثورة 30 حزيران .2013. والإصرار تالياً على وضع مصالح الجماعة فوق مصالح الوطن ومواطنيه، وبالتالي مواصلة سياسة الانفراد والتفرد رغم مخاطره الراهنة والمستقبلية أيضاً، وانعكاسات ذلك المباشرة على توجهات مصر الخارجية وتحالفاتها مع الحكومات الإسلاموية، وحركة الإخوان المسلمين العربية والعالمية.

إن استمرار هذا التجاذب والاصطفاف الجاري والحركة الشعبية الواسعة، الذي ساهم في بناء الأطر الائتلافية الواسعة (جبهة الإنقاذ، حركة تمرد، شباب الثورة.. إلخ) وإنجازاتها الأولية الهامة، بدءاً من تشكيل حكومة تكنوقراط مستقلة بديلاً لحكومة الإخوان الانفرادية، إضافة إلى تفعيل عمل لجنة الخمسين (الخاصة بتعديل الدستور والتي تضم الغالبية الساحقة من القوى والأحزاب والرموز الوطنية والديمقراطية، باستثناء حركة الإخوان المسلمين الرافضة لصيغ التعاون والتنسيق الوطني العام)، والعمل على دمقرطة المؤسسات المصرية كافة، وبضمنها قيام التحالفات الأكثر ديمقراطية وثورية، والمنخرطة والفاعلة في هذه الأطر الجديدة، التي مهدت الطريق، وعملت على إنجاح ثورة 30 حزيران، وبالتالي البدء بسلسلة إصلاحات داخلية تدريجية.. كذلك بدء تصحيح الأوضاع الاقتصادية – الاجتماعية، لما فيه خير شعب مصر وعلاقاته (نشير هنا إلى الزيارة التاريخية للوفد الروسي بعد انقطاع دام عقوداً، وضم وزيري الخارجية والدفاع، ومدلولاته الهامة) وتعزيز استقلاله الوطني الناجز، بعيداً عن التبعية والارتهان للغرب ومؤسساته المالية أيضاً. وباتت تطرح وبإلحاح مواصلة الشعارات والبرامج الأولية لثورة التصحيح (30 حزيران)، وفي مقدمتها حظر جماعة الإخوان المسلمين الرافضة أصلاً، وعملياً لمبادئها وشعاراتها الشعبوية في شهور الثورة الأولى (25 كانون الثاني /يناير)، وفي التصدي لمحاولات إشغال مصر وما تمثله لقضاياها الوطنية والديمقراطية ومهماتها، وحظر نشاط هذه الحركة الظلامية ونشاطها المعادي لغالبية تطلعات الشعب المصري ورغباته بطبقاته وفئاته ورموزه الوطنية الحقيقية الأكثر حرصاً على مسار مصر العروبية الديمقراطية ومأسستها من جهة، وفي تحديد سياسة خارجية عروبية وإقليمية ودولية تعيد إلى مصر دورها الاستقلالي الفاعل والمناهض للتبعية في ظل المتغيرات التي تشهدها منطقتنا أولاً.

وينظر هنا باهتمام إلى دعم أصدقاء شعب مصر الحقيقيين وخياراته الوطنية الداخلية والخارجية، وإلى (التباينات) و(التعارضات) الجارية في صفوف الدول الرأسمالية، وبخاصة الولايات المتحدة، التي أيدت نظام الأخونة (على علاته ونواقصه ومخاطره)، ورمت بحليفها التاريخي مبارك إلى مزبلة التاريخ، بعد أن استنفد دوره. كذلك البدء في البحث عن قنوات تواصل مع إفرازات ثورة 30 حزيران، بوصفها حقيقة راسخة لم يعد ممكناً تجاوزها أو العودة إلى الوراء. في الوقت الذي مازالت فيه دول الأخونة وحركاتها وتنظيماتها (بخبرتها وتجربتها طوال عقول طويلة، ولهذا أسبابه ويحتاج إلى بحث آخر مفصل)، تواصل دعمها لرموز النظام الشمولي المعزول جماهيرياً، تحت لافتة (مخزوقة) وأسطوانة مشروخة عنوانها دعم ما يسمى (التحالف الوطني من أجل عودة الشرعية). أي عودة نظام الأخونة الذي لفظته القوى الحية وعشرات الملايين من شعب مصر بعد أقل من عام على توليه السلطة.

إذاً.. مهمات كبيرة وجسيمة تواجهها مصر شعباً وقوى حية متنورة، تسعى للوصول بمصر إلى بر الأمان، الذي يتطلب تعزيز التفاعل مع حركة الشارع ومطالبه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحقة والمشروعة، والتي تتلخص في (التقدم والعدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية)، وصولاً إلى استعادة مصر لدورها القومي والعروبي والقاري المعهود، والعمل في الوقت نفسه على فضح سياسات التفرد والانفراد، ومحاولة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، بأخونة بلاد الكنانة وتبعاته الكارثية على مصر كبرى الدول العربية، وأحد أهم أقطابها.. وهي مهمات ليست، ولن تكون سهلة، بسبب موازين القوى الآخذة بالتغيير، والتجربة الفتية لقوى التغيير الحقيقية والجذرية التي التفت حولها الجماهير المليونية، ويرتبط نجاحها حتماً بصحة برامج القائمين عليها ودقتها، وعلى مواصلة التغيير الإيجابي نحو مجتمع مصري عروبي- ديمقراطي تقدمي يعيد للذاكرة تضحيات مصر ومساهمتها الفعالة التاريخية وتجذيره أيضاً.

العدد 1107 - 22/5/2024