من الصحافة العربية العدد 618

هجوم معاكس محكوم بالفشل

يلاحظ مؤخراً تحريك عدة جبهات في وقت واحد: من الساحة الفنزويلية حتى الساحة الأوكرانية، إلى الإعلان عن بدء هجوم جديد في منطقة درعا، على الحدود الأردنية – السورية، إلى استقبال الرئيس أوباما للدلاي لاما، رغم وعد مسبق بالكفّ عن ذلك، إلى إقحام مقترح استفزازي أمريكي على المحادثات الإيرانية مع الست الكبار يتعلق بالصواريخ الإيرانية، التي لا علاقة لها على الإطلاق بالموضوع النووي الإيراني، وغيرها من التحركات الموقوتة.

ويبدو أن كل ذلك يأتي في إطار هجوم معاكس، بعد أن عانت السياسة الأمريكية، في السنوات القريبة الماضية من نكسات عدة. ففي الشرق الأوسط، بؤرة التركيز الأمريكي ما بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، لم يحقق التدخل العسكري الأمريكي في كل من أفغانستان والعراق أهدافه المرجوة، بل خسائر واستنزافاً خطيراً في الأرواح والأموال. على صعيد آخر، منذ بدأ الحراك الشعبي العربي، أواخر العام ،2010 حاولت واشنطن، المنهكة من الحربين السالفتي الذكر ومن الأزمة المالية – الاقتصادية التي بدأت في الولايات المتحدة أواخر عام 2007 وما زالت مستمرة، حاولت الالتفاف على هذا الحراك الشعبي وتجييره، بواسطة أتباعها القدماء والجدد، لصالح مخططاتها المعروفة في المنطقة ولا سيما (الشرق الأوسط الجديد) أو (الكبير) مستغلة غياب القيادة الثورية المنظمة لهذا الحراك الشعبي، فقد بدا لواشنطن أنها أفلحت في تحويل المياه إلى طاحونتها – كما يقال، بخاصة بعد أن عقدت تحالفاً مع حركة الإخوان المسلمين، ذات القاعدة الشعبية والحضور القوي في مختلف البلدان العربية. لكن هذا الرهان سرعان ما سقط، أمام تواصل الحراك الشعبي، الذي ما كان لسلطة الإخوان، أن تحقق المطالب التي نزلت الملايين للشارع من أجل تحقيقها، كما أكدت التطورات اللاحقة في كل من مصر وتونس حتى الآن.

أما في سورية، التي استعصت منذ البدء، على محاولات الالتفاف على الحراك الشعبي وتسخيره لصالح المشاريع الأمريكية في المنطقة، فقد فشلت، حتى الآن، مختلف التكتيكات التي جرى تبديلها لتحقيق الهدف، بما في ذلك نقل الملف السوري من يد حمد القطري إلى يد بندر السعودي (ثم استبعاده)، اللذين أنفقا المليارات في مسعى لإنجاز (المهمة) الموكلة لكل منهما بالتوالي. والنتيجة العامة حتى الآن: مزيد من السيطرة والتماسك للنظام السوري، ومزيد من التشظي والصراع الدموي بين المرتزِقة الوافدين من الخارج.

ومن المؤشرات ذات الدلالة على تراجع الدور الأمريكي وتردّيه في المنطقة أن واشنطن لم تعد قادرة حتى على التوفيق والتنسيق بين أتباعها الأقربين، بين تركيا وإسرائيل ، وبين السعودية وبعض دول الخليج وبين تركيا وقطر ومعهما حركة (الإخوان المسلمون)؛ وتجد هذه الخلافات والصراعات بعض ترجماتها الصارخة على الأرض السورية في الاقتتال المستعر بين فصائل المرتزقة والإرهاب الدولي، وكذلك في التردي المتواصل في صورة ما يسمى الائتلاف السوري المعارض، الذي تعتمده الدول الغربية ممثلاً وحيداً للمعارضة السورية.

وفيما يتعلق بأوكرانيا، من السذاجة المفرطة الاعتقاد بأن ما جرى في كييف في الأيام الأخيرة سيحدد صورة هذا البلد. فصورة هذا البلد لا يمكن تحديدها مع تجاهل العاملين الحاسمين التاليين: الأول، تركيبة أوكرانيا السكانية والاقتصادية؛ والثاني، متاخمتها إلى حد التداخل مع روسيا الاتحادية. وفيما يتعلق بالعامل الأول، فتركيبة أوكرانيا من شرقها الصناعي المرتبط بقوة بالصناعات الروسية ويضم مكامن الغاز الطبيعي، ولغته الروسية، ويوالي الرئيس المُزاح (يانوكوفيتش) ويتمسك بالعلاقات الوثيقة مع روسيا، وغربها الزراعي، وتقع كييف العاصمة فيه ويميل للاندماج بالمجموعة الأوربية، لكنه لا غنى له عن القسم الشرقي. أما العامل الثاني فيحدده موقع أوكرانيا الجيو – سياسي، الملاصق لروسيا، والتي تعتبر أوكرانيا أنها تؤثر بقوة على أمنها القومي، وبالتالي – لن تسمح، أي روسيا، بتحويل أوكرانيا إلى قاعدة لحلف الناتو ضدها. وفي هذا الصدد، ينبغي استذكار أزمة أوسيتيا الجنوبية، التي دخلها جيش الرئيس الجورجي السابق – الموالي للغرب – بإيعاز من واشنطن عام 2008. فقد جرى طرد هذا الجيش على يد القوات الروسية، دون أن تتمكن واشنطن من تحريك ساكن.

ومن الاتفاق الذي وقع في الحادي والعشرين من شباط الجاري، بين الرئيس يانوكوفيتش وزعماء المعارضة، بحضور ممثلين من المجموعة الأوربية، يتضح أن المجموعة الأوربية لا تتجاهل كلية العاملين السالفي الذكر، اللذين يحددان، آخر الأمر، الواقع الأوكراني؛ لكن المكالمة السرية التي جرى الكشف عنها ولم تستطع واشنطن إنكارها بين مساعدة وزير الخارجية الأمريكية والسفير الأمريكي في كييف، تكشف أن واشنطن تقف وراء تلك العصابات الفاشية أمثال حزب الحرية وريث القوى الفاشية التي تعاونت مع الاحتلال النازي، والتي أجهضت الاتفاق المذكور وواصلت أعمال الشغب والتخريب، أملاً في فرض واقع يتجاهل حقائق الوضع الأوكراني المتميز، ويحوّلها لقاعدة للناتو ضد روسيا في الأساس. أما الوعود بالمساعدات التي تعلنها كل من أوربا الغربية والولايات المتحدة، اليوم لأوكرانيا، في وقت تعانيان من أزمات مالية – اقتصادية حادة ومزمنة، فإنها لا تستطيع أن تعوّض أوكرانيا عن علاقاتها الاقتصادية والمالية مع روسيا بما في ذلك في ميدان الطاقة وبخاصة الغاز.

وإذا كانت أوكرانيا تعاني من أزمات متفاقمة، اقتصادية – مالية – اجتماعية، هيأت تربة ملائمة للمتآمرين، فإن خلاصها لن يتم إلأّ بتضافر جهود أبنائها المخلصين، مع الحفاظ على وحدة التراب الوطني وإرساء ديمقراطية حقيقية فيها. أما الهجوم الأمريكي المعاكس، فلن يحقق أهدافه، كفرض مشروع (الشرق الأوسط الكبير) أو عرقلة تحوّل أمريكا اللاتينية يساراً، أو إجهاض تشكل نظام دولي جديد، فقد تجاوزها الزمن.

 

وكالة (معا) الإخبارية

العدد 1107 - 22/5/2024