الاتحاد الاقتصادي الأوراسي.. المغزى والدلالات

بعد أسبوع واحد من توقيع صفقة الغاز الكبيرة بين روسيا والصين، وقّع الرئيس الروسي في 29 أيار الماضي مع رئيسي كازاخستان وبيلاروسيا في العاصمة الكازاخية (أستانا) اتفاقية توصف بـ(التاريخية) لإنشاء اتحاد اقتصادي أوربي ـ آسيوي، سيبدأ سريان مفعولها مع مطلع عام 2015. وهذه الدول الثلاث هي نفسها الدول المكونة للاتحاد الجمركي في الساحة السوفياتية السابقة بزعامة روسيا. فخلال السنوات الثلاث الأخيرة، ارتفع حجم التبادل التجاري داخل الاتحاد الجمركي بين تلك الدول بنسبة 50 في المئة، أو بمقدار 23 مليار دولار، ووصل إلى نحو 66 مليار دولار في 2013. واحتلت بيلاروسيا وكازاخستان معاً المركز الثالث في التبادل التجاري الخارجي مع روسيا بعد الاتحاد الأوربي والصين.

وتنبع أهمية (الاتحاد الاقتصادي الأوراسي)، من وجهة النظر الروسية، من كونه يمثل بداية لتأسيس قطب اقتصادي وسوق إقليمي كبير يجمع أكثر من 170 مليون نسمة، ويمتلك خمس احتياطي العالم من الغاز الطبيعي وحوالي 15 في المئة من احتياطي العالم من النفط. كما أنه من المفترض أن تنضم إليه دول أخرى مستقبلاً، منها أرمينيا وقرغيزيا في نهاية العام الحالي. ومن المقرر أن تأخذ الدول الثلاث المُؤسسة على عاتقها مسؤولية ضمان حرية حركة السلع والخدمات ورؤوس الأموال واليد العاملة، واتباع سياسية منسقة في قطاعات الاقتصاد الرئيسة، وفي مقدمتها قطاعات الطاقة والصناعة والزراعة والنقل. ففي عام ،2019 تعتزم روسيا وكازاخستان وبيلاروسيا إنشاء سوق مشتركة للطاقة الكهربائية. وستستفيد بيلاروسيا وكازاخستان خلال السنوات القليلة المقبلة من استيرادها للطاقة الكهربائية الروسية على أساس الأسعار المحلية الروسية للكهرباء. وفي عام 2025 يتعين أن تظهر هيئة عليا لتنظيم السياسات المالية بين دول هذا الاتحاد، التي سيتعين عليها أيضاً الانتقال إلى سياسة اقتصادية ونقدية ومالية واحدة.

ومن المفترض أن تنشئ دول (الاتحاد الاقتصادي الأوراسي) خلال أحد عشر عاماً سوقاً موحدة للنفط والغاز. ومن المعروف أن النفط الروسي الذي يُصدر إلى بيلاروسيا حالياً معفى من الرسوم الجمركية، ولكن مينسك تضطر لأن تدفع إلى الخزينة الروسية رسوم التصدير مقابل بيع المنتجات النفطية المشتقة من النفط الروسي إلى أوربا. ومن المفيد لكازاخستان اليوم أيضاً شراء النفط الروسي وفق الأسعار الروسية الداخلية. ولذلك أصرت روسيا على إطالة مرحلة الانتقال إلى السوق الموحدة للطاقة، كي لا تخسر كثيراً.

ويراهن الكرملين على أن تتزايد فعالية الاتحاد الاقتصادي الأوراسي في السنوات المقبلة خارج حدود الدول المكونة له حالياً، فقد اتفق أعضاء الاتحاد الجديد على تنشيط المباحثات مع فيتنام حول إنشاء منطقة تجارة حرة، وتعزيز التعاون مع الصين، وكذلك تشكيل لجنة خبراء لوضع أنظمة للتجارة التفضيلية مع إسرائيل والهند. كما أن مصر تحاول منذ فترة التعاون مع الاتحاد الجمركي في الساحة السوفييتية السابقة بزعامة روسيا، الذي يمثل نواة رئيسية للاتحاد الاقتصادي الأوراسي.

وبالرغم من أن هذا الاتحاد يحمل طابعاً اقتصادياً بحتاً، إلا أنه يجسد رؤية جيوسياسية، وربما استراتيجية، للكرملين. فهو، برأينا، يعكس الرؤية الروسية أو (رؤية بوتين) لمستقبل العلاقة في الساحة أو المنطقة الأوربية الآسيوية. وتعتمد الرؤية (البوتينية) هذه على مفهوم (أوربا الكبرى أو الكبيرة)، التي تتكوّن من دول الاتحاد الأوربي و(الاتحاد الأوراسي الجديد)، الذي يتعين أن يضم بجانب روسيا كلاً من أوكرانيا ومالدوفا وجورجيا وتركيا وأذربيجان، وبالطبع كازاخستان وبيلاروسيا وأرمينيا وباقي دول آسيا الوسطى. ومن المفترض أن تلعب روسيا في هذا المشروع دوراً قيادياً هاماً كدولة كبرى، وذلك على أمل أن تفقد الولايات المتحدة الأمريكية بعض نفوذها في المنطقة الأوراسية. ولذلك دعا بوتين مطلع عام 2012 إلى (السير على طريق إنشاء الفضاء الاقتصادي والإنساني الموحد من المحيط الأطلسي حتى المحيط الهادي)، بصفته فضاءً سيسمح بترسيخ إمكانات روسيا وقدراتها كدولة كبرى تفضّل التمسك بمبدأ (السيادة الكاملة) على خلفية رفضها الخضوع لمعايير الاتحاد الأوربي، التي تعتبرها تدخلاً في شؤونها الداخلية والشؤون الداخلية لغيرها من دول الفضاء السوفييتي السابق.

ولا شك في أن تأسيس الاتحاد الاقتصادي الأوراسي بزعامة روسيا يصطدم مع الرؤية الأوربية والأمريكية الراهنة لمنطقة أوراسيا. ولذلك يمكن النظر إلى تأسيسه كخطوة منافسة للاتحاد الأوربي مستقبلاً. في الوقت نفسه، فإن الاتحاد الجديد ـ كما يراهن الروس ـ قد يمثل منافساً أيضاً للنشاط الاقتصادي الأمريكي في أوراسيا في السنوات المقبلة إذا انضمت دول أخرى إليه في المستقبل.

ويصبّ تأسيس الاتحاد الاقتصادي الأوراسي في اتجاه التعددية القطبية واستراتيجية تشكيل تكتلات إقليمية في الساحة السوفييتية السابقة، التي تسعى إليها روسيا بوتين منذ سنوات عدة. وتتناغم الخطوة الروسية بإنشاء الاتحاد المذكور مع السعي الروسي لتفعيل منظمة (معاهدة الأمن الجماعي) في الفضاء السوفياتي السابق التي تضم في عضويتها حالياً ست دول، هي أرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزيا وروسيا وطاجيكستان. ويراود الكرملين، منذ فترة، حُلم تحويل هذه المنظمة إلى حلف عسكري سياسي منافس لحلف شمال الأطلسي. إن هذه المنظمة، التي وُقعت المعاهدة الخاصة بتأسيسها في 1992 اكتسبت بعد عام 2000 مع وصول بوتين إلى السلطة في روسيا، ملامح جديدة تجلت في توسيع الوجود العسكري الروسي في بعض الدول الأعضاء فيها. وأخيراً، يمكن القول إن الاتحاد الاقتصادي الأوراسي بزعامة روسيا لن يخلو من تناقضات بين أعضائه، خاصة في ظل الأزمة الأوكرانية. كما أن غياب الصين عنه قد يقلل من حجمه ودلالاته، سواء بالمقارنة بالاتحاد الأوربي أو بالنشاط الأمريكي المتصاعد دائماً في منطقة أوراسيا.

 

عن (السفير)

العدد 1105 - 01/5/2024