التسليع وهوس القتل..

تتدرج ماهية الشر من عفوية الابتهاج باقتراف الأذى، إلى التماهي مع نشوة القتل والتعذيب، مروراً باجترار الأحقاد والضغائن والمكائد.. سلسلة تتوالى لتفضح تراكم الظلمات في النفوس الجشعة، وسهولة انزلاق أرواحها نحو العدم المستبعد من الرحمة. فالشر يفترض به أن يلتهم ثمرات النفوس الطيبة، فيسدّ آفاق معارجها في سلم الانعتاق. من هنا يكون خطره الأكبر، إذ يستدرج إلى مصيدته الحائرين بين غواية الجهل ويقين المطلق. فكيف تنشط غريزة العدوان من كمونها لتتوحد في تشاركية القتل؟

يجيب الفيلم الأمريكيuntraceable) ) عن هذا السؤال باستخدام المجال الافتراضي بدهاء لجعل العقاب تشاركياً. والمفارقة أن هواجس الانتقام ومسوغات التعذيب والقتل تستنسخ الجريمة لتتناسل في نفوس متعطشة لنداء التمرد الأزلي. 

يتعقب المخرج (Gregory Hoblit) حدة جرائم الانترنت في مدينة بورتلاند الأمريكية، ويسلط الضوء على المحققة جنيفر ولحظة اكتشافها دخول موقع (اقتل معي) إلى حيز المشاهدة العلنية. إذ ينقل قاتل يدعى أوين مراحل تعذيب قطة. وتستبعد سريعا الصفة الارهابية للعملية لأن المجرم يحرص على تعريف نفسه لاستقطاب أكبر نسبة من المتابعين المحليين. وتبرهن التحقيقات الأولية على تمتع القاتل بشدة الذكاء ودقة التنظيم، لسهولة تغيير مواقعه الافتراضية وخفة عمليات الخطف في وضح النهار. وهي مقدمة لاختطاف طيار وتعذيبه على الموقع بعد رهن سرعة الموت نزفاً بعدد المتابعين. وبعد الضحية الأولى يستدرج مراسلاً تلفزيونياً ليقتله بسرعة أكبر، إذ تتضاعف أعداد المشاركين في الاستمتاع بالقتل. ثم يعقبه قتل محقق فيدرالي في قسم جرائم الإنترنت، ينجح قبل وفاته بتمرير إشارات بعينيه لزملائه المتابعين على شاشة الموقع، تتم ترجمتها بعبارة (انتحار ساعة الذروة). الأمر الذي يعرّف جنيفر على هوية القاتل وأهدافه البعيدة. إذ يتبين أن المنتحر ساعة الذروة، هو استاذ جامعي دفعه اليأس عقب موت زوجته لإلقاء نفسه من أعلى جسر برودواي في ساعة الذروة، لتقوم طائرة حوامة بتصوير الانتحار وعرضه على القنوات المحلية. مما استجر أحاديث العامة وضحكاتهم، وخاصة حين أعادت احدى القنوات عرضه عدة مرات لرفع نسبة المشاهدين. لذلك قتل أوين الطيار الذي قاد الحوامة، ثم قتل المراسل الذي أجرى اللقاءات، وخطف قطة الرجل الذي أدلى بحديث للقناة.. 

 أتاح أوين دخول الموقع للأمريكان فقط، لينتقم من نسب المشاهدة المرتفعة التي حظي بها انتحار ساعة الذروة، وبذلك أثبت بذكائه المدهش وقدرته البدنية العالية على أسر ضحاياه، أن التحدي يحرك المجتمع الأمريكي ويهيج نوازع الشر الكامنة في النفوس. فالمقالة الأولى التي نشرها طالب جامعي، أثنت على التجربة واعتبرتها مدهشة وطالبت بالمزيد. لتتوالى بعدها التعليقات المنحرفة على هوامش الموقع، الذي يحمل صورة سوداء للأب المنتحر.

استدرج اوين ضحاياه عبر الانترنت، بإرسال رسائل الكترونية تتناول اهتماماتهم الشخصية، فالطيار استدرج عن طريق شراء تذاكر الصف الاول لمباراة الهوكي، والمراسل لشراء قطار خشبي، اما المحقق فبتقليد صوت رفيقته باستخدام مؤثرات صوتية. بينما استدرجت جينفر بافتعال حادثة فوق الجسر. وحين قام بتعليقها تمهيداً لتعذيبها تصاعدت الأرقام بنسب مخيفة، لتعلن ذروة الهياج الجمعي. والمفارقة أن أوين يختار لضحيته قبو منزلها لقتلها هناك، فيتعرف زملاؤها إلى المكان ويقومون بإنقاذها..   

الملاحظ في الفيلم مقدرة الأمريكيين على تحويل كل شيء إنساني إلى سلعة إعلانية رخيصة قابلة للاستخدام كترفيه. فعقب الانتحار يسارع أحد المارة لالتقاط نظارة المنتحر وعرضها للبيع على الإنترنت، فتباع بسرعة. وهذه الظاهرة دفعت سفاح الانترنت لابتكار فكرته عن القتل، تمهيدا لجعل عمليات الاعدام علنية على شاشات النت، دون أن ينس الإشارة إلى سهولة توافر الممولين. فبعشرة دولارات سيتابع الأمريكان كعائلة واحدة سعيدة، تقنية الإعدام العامة التي أجرى أوين محاكاة لها في أقبية المنازل.

رغم أن الفيلم لم يحظ بتقدير جماهيري عال إلا أنه نجح في تأطير التسليع الإنساني، وتعجيل آلية استبطان الشر في النفوس المادية الشرهة لمباهج الحياة.

العدد 1105 - 01/5/2024