عن خداع لصوص الفن والحياة

تكتنف الجمال الحقيقي مسحة غموض تتحدى يقظة الفنان المبدع، فيلتقطها بحدسه المستغرق في ماهية الخلق والتكوين، ويصورها بشغف يقارب الإيمان. فالموهبة لا تكفي وحدها لصقل فنان، بينما تنفع في تشكيل لص ماهر يقنص تجليات اللوحات الفنية ويكنزها في محراب لا تطاله أعين المتطفلين الفضوليين. فكيف يتواجه لصوص الفن ويتناهبون النفائس ويتبادلون طقوس الانتقام! يجيبنا الفيلم الإنكليزيthe best offer) ) عن السؤال بحرفية درامية متقنة، تعكس دهاليز المزادات الفنية وأروقتها الخفية، من خلال قصة حب طارئة بين كهل وممثلة شابة.

بداية يعكس المخرج  Giuseppe Tornatoreأجواء المزايدات مركزاً الأضواء على فيرجل أولدمانGeoffrey Rush) ) وهو يخوض بثقة عالية صولاته الشهيرة أمام جمهور الصالة الفخمة. ووسط الحشد يبرز شريكه الخفي بيلي، وهو يتدخل لشراء لوحات معينة متفق عليها مسبقاً. ففيرجل يختار بعناية أثمن اللوحات ويعرضها أمام الجمهور على أنها مزيفة ليشتريها بيلي مقابل عمولة يدفعها أولدمان بسخاء. وخلال 36 عاماً يتجمع في فندق فيرجل محراب واسع من اللوحات النادرة التي تجسد وجوهاً أنثوية غارقة في البهاء الخاص بها، فيستغرق في تأملها بشغف العاشق الولهان.

كان بيلي رساماً موهوباً لكنه افتقر إلى الغموض والإيمان، مما جعل لوحاته بخسة القيمة في نظر فيرجل. فانتظر بيلي فرصة العمر ليتنزع اعتراف شريكه بموهبته الفذة في النصب والاحتيال. إذ استأجر جماعة من الممثلين الشبان ورسم لهم حبكة متقنة تستدر الشفقة والتعاطف، حول شابة مصابة بهلع التواجد بين الناس، تحبس نفسها في قصر منعزل متداعٍ. ويستدرج فيرجل للفخ من خلال الشابة وتدعى كلير، والتي يفترض أن تعرض أثاث قصرها للبيع في المزاد العلني. وبسبب التمنع والحجب المتواترين يقع فيرجل في حبها، وهو الرجل الذي تعبد الأنثى في محراب تحفه، دون أن يلمس امرأة حقيقية. فالاحترام الذي حمله للمرأة كان يساوي الخوف منهن. ومثلما يلقي الصياد المتمرس الطعم أمام الفريسة، يسقط بيلي قطع خردة في طريق فيرجل أثناء زيارته التقييمية للقصر. فيدفعه فضوله لتكليف روبرت بإعادة تجميع القطع تدريجياً، والتي يتبين أنها تعود لنموذج قديم للرجل الآلي الأول والمسمى فوكانسن في القرن الثامن عشر، والذي تصادف أن قدم فيرجل أطروحته الجامعية حوله.

نجح روبرت ببراعة في تجميع فوكانسن وبالوقت نفسه أشعل عاطفة فيرجل نحو كلير وأوصلها إلى مرحلة الوله. فاشترى لها الملابس من أشهر بيوتات الأزياء وجلب لها الطعام من أفخر المطاعم، وبحث عنها بيأس مجنون حين اختفائها المدروس. وحين طلبها للزواج وافقت فخاض باحتفالية مشرقة جولته الأخيرة في عالم المزايدات ليتفرغ لحياته معها. وعند الوداع يخبره بيلي بأنه سيرسل له لوحة من اعماله لتذكره بالفنان الذي كان سيصحبه لو آمن فيرجل به. بعدئذ تسرق اللوحات من المحراب وتترك لوحة شخصية لكلير بتوقيع بيلي، إضافة إلى رجل فوكانسن الذي اشتهر بتقديم الأجوبة الصادقة: (هناك شيء حقيقي مخبأ في كل عمل مزور). وهي عبارة فيرجل حين سئل عن شرعية قنصه بالخداع اللوحات الثمينة.

يتذكر فيرجل كلام بيلي حول المشاعر الإنسانية التي تشبه الاعمال الفنية، فمنها المزورة المتلبسة بالمشاعر الاصلية. فكل شيء يمكن تزيفه: الفرح، الألم، الكره، المرض، الشفاء، الحب.. وبذلك يكون الحدس الكبير لفيرجل قد سقط في أحابيل بيلي. لكن فيرجل يعترف باللعبة ويتراجع عن تقديم الشكوى لاستعادة لوحاته، ويكتفي بالعيش على ذكريات الحب الوحيد في حياته. وبالتالي يكون الزيف هو التحدي الأكبر الذي تواجهه الأصالة المطوقة بالانتهازيين.

العدد 1104 - 24/4/2024