فلسفة الموت وشفاعة الغفران..

يعترف القس في إحدى اللحظات الحرجة أن الخوف من الموت هو المحرك الأساسي للإيمان عند غالبية البشر، مما يبرر سهولة فقدانه. وهي مقولة تؤطر فيلم calvary))، الذي يخوض بضراوة في مأزق الإيمان المعاصر في عصر تستنزفه النزعة المادية الاستهلاكية. مما يكبل الحياة بالشهوات والرغبات، التي تتم ملاحقتها بجنون يؤجل هلع الخوف من مواجهة الموت وما يستدعيه من مصالحة مع الذات.

تدور الأحداث في إيرلندا ضمن قرية تضم كنيسة صغيرة تبسط رعايتها على شريحة متنوعة من الآثمين، ابتداء بالطبيب الملحد وصاحب البار وعامله، إلى جاك وزوجته فيرونيكا وعشيقها الإفريقي، مروراً بالكاتب العجوز ورجل الأعمال الثري. ولكل مبرره الخاص للإلحاد والقنوط من الرحمة الإلهية. أما المحرك الفعلي الذي تدور حوله الأحداث فهو اعتراف جاك أمام الكاهن جيمس بتعرضه للاستغلال الجنسي الوحشي من قبل قس طوال خمس سنوات، حين كان في الخامسة من عمره. مما أدخله ظلمة القهر والضغينة ودفعه إلى هوة الانتقام، فقرر قتل جيمس بعد منحه مهلة ثمانية أيام لإعادة ترتيب شؤون بيته، ولكي يتصالح مع الله أثناء مواجهة مخاوف الموت. ويبرر سلوكه العدواني بأثر الصدمة والإدهاش الذي سيخلفه مقتل قس طيب بريء انتقاماً لذكرى أولئك الأطفال الفقراء الذين تم استغلالهم جنسياً قبل أن يقتلوا وتحرق جثثهم، بعد أن ترك الآثم ليفلت من العقاب. 

 بضربات سريعة يتنقل المخرج John Michael McDonagh) ) بين اللوحات الإنسانية المتداخلة التي تعري المجتمع الغارق في ظلام الشك والإلحاد. وهي حالات جهد القس جيمس Gleeson Brendan) )في معالجتها قبل حلول موعد القتل، لكنه لم ينجح في رد أحد إلى عهدة الإيمان المبني على الشفقة والرحمة. فالميل إلى العنف رد فعل طبيعي على اليأس الذي تفرضه الحياة المثقلة بالرغبات والبعيدة عن الامتلاء الروحي. وبالتالي لا مجال لإصلاح فيرونيكا التي تستمتع بطقوس الضرب العرقي، والنادل الشاب الذي يترك قريته ملتحقاً بالجيش ليختبر تجربة قتل إنسان. وفي حين يتكئ الإفريقي على إرث العنصرية ليتحدى بعدائية سوقية مواعظ الأب ونداءه الإنساني، يصب صاحب البار حقده على المصرفيين المستغلين. 

ومع أن القاعدة الأساسية في تلقي الاعترافات تنص على تجنب الخوض في التفاصيل، إلا أن جيمس المثقف يسعى بحسه الإنساني لتفهم الخواء الروحي لأعضاء أبرشيته، وبالتالي يحاول مساعدتهم بخلق مساحة من المودة تعيد ردم الهوة الإلحادية الضخمة. فلا تفلح مساعيه إلا مع القليلين كابنته الوحيدة فيونا، التي أنجبها من زواجه السابق قبل التحاقه بالكنيسة إثر وفاة زوجته. ويكون الأثر الطيب هنا منقذاً للشابة من نزعات الانتحار التي أتت نتيجة لتخبطها في علاقتها بالرجال…

تعايش الجميع مع انحلالهم الخلقي والعنف الكامن في نفوسهم، سواء لجهة الشذوذ الجنسي في حالة المحقق، أو تشارك جاك لزوجته مع عشيقها تحدياً لقدسية الزواج، وفشله الذريع في التعايش مع ألمه، بصفته كان طفلاً انتهكه قس رديء. أما الثري فاعتاد الإفلات من العقاب، وقدم هبة مالية للكنيسة تحدياً للقس لاستجرار شعور مفقود بالندم..

أعطى الفيلم لكل مسار حياتي معناه وتكفل الحوار الوجودي بإضفاء طابع الملهاة الإنسانية على العمل، مما أعطى اللعنة الأبدية مداها التشاؤمي الواسع. فغدا النقاش بين الشخصيات الكثيرة المتباينة، منقسماً بين حتمية الجبرية والتخيير، وأيهما أقدر على ترجمة الدمار الكبير الذي طال ماهية الطيبة والخير، وجعل إنقاذ النفوس من ربقة الشر أمراً مستحيلاً.

سار جيمس في طريق جلجلته بشجاعة، وحدّق في عيني قاتله بتسامح وشفقة، لأنه عاش حياته مفتقداً إلى الحب والتعاطف الذي يهب السلام للنفوس الحائرة. لكن الانتقام لم يستدع التوازن، إذ بقي اليأس سوراً يعزل جاك عن التوبة والخلاص بنيل الغفران.

العدد 1105 - 01/5/2024