فخ عاطفي يفيض بالرعب

يختلف التعاطي مع رغبات الأحلام المجهضة من شخص لآخر، فالأشجع والأكثر مرونة يعترف بالخيبة ويواصل البحث عن سبل موازية تخلق تعويضاً روحياً حقيقياً. بينما ينكفئ المتصلب على ذاته الضيقة ليدور في دوامة من التجاهل المخادع تحول الآلام والخيبات إلى صراع داخلي يفرغ الأحزان من محتواها ويحيلها إلى مستنقع تغرق فيه الروح. فيخلق بذلك متاهة من العوالم البديلة تمتص الطاقة الحيوية وتعيد تشكيلها في إطار مراوغ.

هي حالة بطلي الفيلم الأستراليBabadook) ) الذي زاوج ببراعة مدهشة بين عالمين متداخلين يلتهم أحدهما الآخر، محولاً الحالة الإنسانية إلى فخ عاطفي يفيض بالرعب.

اختارت الكاتبة والمخرجة الاستراليةJennifer Kent) ) نموذجاً مألوفاً في أفلام الرعب، يتبنى قصة الوحش الخارج من بين دفتي كتاب ليلتهم ضحاياه تدريجياً بعد أن يوقعهم في دهاليز حكايته المخيفة. ينجح الوحش الأسود المسمى بابادوك، في الاستحواذ على إعجاب سامويل، الطفل اليتيم ذو السبع سنوات، ويدفعه لتقمص شخصية الأب الغائب المدافع عن أمان العائلة. وبعد أن نراه جاثياً هلعاً يترصد وجود الوحش تحت السرير وخلف الأبواب، ينقلب إلى مشاكس يغافل أمه لينثر قطع الزجاج في طبق الطعام بقصد إرعابها. ثم يطور مهاراته في نصب الفخاخ المخيفة لأمه كي يقنعها بوجود الوحش.

تتطور حالة سامويل سريعاً بفعل العزلة والوحدة، فيغدو عدوانياً مع أقرانه في المدرسة، ثم يدفع قريبته الصغيرة أثناء حفل عيد ميلادها للسقوط فيكسر أنفها. عندئذ لا تجد الأم أمامها خياراً سوى ترك عملها كممرضة في دار المسنين والبقاء معه في المنزل. بالمقابل تزداد حالات شرودها المترافقة بهلوسة ونوم متقطع مليء بالكوابيس. وخلال أسبوعين كاملين يغرق كلاهما في عالم موازٍ مرعب جسدته واقعاً حياً مشاعر العجز والخذلان والغياب الكلي للتعاطف.

تتداخل مشاهد الترقب والرعب بومضات الحنان المفقود، فتضيء المخاوف لحظات اليأس والحرمان. وتتكاثف الأضواء لتعيد رسم تفاصيل الفراغ العاطفي الكبير الذي خلفه موت الزوج يوم ولادة طفله. فالأم التي تركت مهنتها ككاتبة لتتفرغ لتربية طفلها، لم تجد من ينصت لها ويتعاطف معها، سواء أختها المشغولة بحياتها أو جاراتها المتكلفات. بينما ينشد طفلها عبر تقليد براعة الساحر في التلفاز، فرصة ابتكار عالم جديد يحمي وجوده المهدد باستفزازات الأطفال وإدانات البالغين.

تزداد الشحنات العدائية المتبادلة بين سامويل وأمه فتصل لمرحلة القسوة والإيذاء، حين يصر الطفل على استحضار شخص والده المتوفي من خلال صوره وحاجياته، بينما تتجاهل الأم ضرورة وجود أب في حياة طفلها، وتقفل على مقتنيات الزوج في قبو المنزل. ليتحول القبو إلى مسرح للاستحواذ الشيطاني كناتج لتكاثف الطاقة السلبية بين الأم وطفلها. فتصبح الأم ممسوسة كلياً، بفعل فقدان النوم، تتدافع الهواجس، ويضطر سامويل عندئذ لتغيير سلوكه من محاولات استحضار الوحش لتحفيز غريزة الدفاع، إلى مواجهة تبعات سقوط الأم في براثن المس الشيطاني وحتمية استعادتها من هوة النفس المظلمة التي تردت فيها. فتغدو مهمته مماثلة لدور المعوذ أو طارد الأرواح الشريرة، مما يفسح المجال أمام المخرجة لإبراز اللحظات الدقيقة التي تفصل الإنسان عن الجنون حين يدرك تماماً أبعاد اللعبة التي ينساق إليها. وعندما تتجمع أجزاء صورة بابادوك لتتمظهر بهيئة الأب المتوفي، يكون لغز الوحش قد انعكس في مرآة الواقع وبانت حقيقة الفوضى العاطفية التي سببها غياب الأب في حياة الأم وابنها.

أثمرت المزواجة المتقنة بين المنحى الإنساني والمفاجآت التشويقية المرعبة، في إضافة تجربة فنية جميلة إلى نمط أفلام الرعب الاعتيادية، التي تعتمد إثارة الظلمات الكامنة في النفس تحت مسميات عدة.

العدد 1105 - 01/5/2024