حرب أشجار الحمضيات

الحرب، الوجه الأبشع للحياة، بها تحرث النفوس العاصية، ومعها تمتحن السرائر الصافية وبنارها تجلى معادن الرجال عن خبائثها، وعلى هوامشها الحزينة تلتقي القلوب الجريحة لتقتسم الحلم بسلام الأبد السرمدي. وما بين هدنة الانتظار العابرة ووهج الاشتعال المدمر تعلو مصائر وتهوي أخرى، فنلمح ومضات اللحظات الأخيرة المسكونة ببريق الآمال المتلاشية لحيواتٍ فانية أطلق عليها المخرج الجورجيZaza Urushadze) ) في فيلمه الجميل Tangerines) ) أبناء الموت، الإخوة المتحاربين.

كان اختيار التصوير في الشتاء ملائماً جداً لاكتمال توافقية الحرب ـ الحكمة، فكمون الطبيعة يتناسب مع تبلد مشاعر المتحاربين تجاه بعضهم، وسكينتها تبعث على الهدوء المقترن عادة بالحكمة عند كبار السن. وهي حال البطل العجوز إيفو، المهاجر الأستوني الذي استقر مع أقرانه في قرى أبخازية حدودية. وحين اندلعت الحرب بين الروس والجورجيين ووصلت إلى مشارف تلك القرى عاد معظمهم إلى وطنه أستونيا، ولم يبقَ إلا العجوز إيفو والطبيب يوهان والمزارع مارغوس. والأخير كان يملك أرضاً واسعة مزروعة بأشجار الماندرين/اليوسفي التي تنتظر القطاف ضمن مهلة لا تتجاوز الخمسة أيام قبل وصول القوات المتحاربة، مما جعل الحرب بنظر مارغوس قتالاً لأجل أرضه التي تنمو عليها أشجار الحمضيات.

تصل طلائع المقاتلين إلى ورشة إيفو لتصنيع صناديق الماندرين، ويلتقي المرتزق الشيشاني أحمد حليف القوات الروسية بالعجوز ويطلب منه إمداده بالطعام. وأثناء فسحة الانتظار يتبادلان التقدير الصامت لمفاهيم الشرف والرجولة، فيأسف أحمد لتقدم إيفو في العمر دون أن يتكهن بهبة الولادة الإنسانية الجديدة التي سيحظى بها على يديه. إذ يشتبك أحمد ورفيقه إبراهيم مع شاحنة تقل ثلاثة شبان جورجيين، وتكون الحصيلة ثلاثة قتلى وجريحان، أحمد ونيكا. فيسعف إيفو مع مارغوس الاثنين إلى منزله ويدفن البقية في الغابة متجاورين، ليطفئ التراب أحقادهم. بينما يكمل المتبقيان تغذية الضغائن وتبادل تهديدات القتل ضمن اعتبارات هدنة يفرضها إيفو في بيته، حين ينتزع أسلحتهما ويأخذ عليهما مواثيق الشرف بأن لا يقتل أحدهما الآخر تحت سقفه. وتدريجيا تتبدد أمارات السوء بفضل حزم إيفو وتماسكه إزاء تصلبهما، ليكتشف كل منهما الإنسان داخل الآخر. فإيفو ينجح في فرض مساحة صغيرة من الاحترام المتبادل بين الرجلين انطلاقاً من عرفان الجميل الذي حمله كلاهما تجاه منقذه. وتأخذ تلك المساحة بالاتساع أثناء عشاء يضم الرجال الأربعة في الطبيعة يرفع خلاله إيفو بألم نخب الموت بوصفه والد المتقاتلين. ثم تسقط قذيفة فوق منزل مارغوس لتضع حداً لأحلامهم جميعاً. فيفقد نيكا حياته دفاعاً عن عدوه السابق أحمد، ويموت مارغوس بنيران الحلفاء الروس قبل أن ينقذ محصول الماندرين من الضياع، وتتعزز مقولة إيفو عن حرب أشجار الحمضيات بوصفها حرباً من أجل اللاشيء.

كان لكل فرد ضرورة أملت عليه الاشتراك في تلك الحرب، فابن إيفو قتل على يد الجورجيين وهو يدافع عن أرضه، فبقي والده قرب قبره ليمنح تلك التضحية مسوغاً. بينما أشفق مارغوس على محصوله من الضياع فانتهى به الحال إلى تابوت مصنوع من خشب الصناديق. بالمقابل تطوع أحمد للقتال إلى جانب الروس لأجل الراتب الجيد الذي يؤمن مستقبل عائلته، في حين انساق نيكا وراء هاجس استعادة الأرض، تاركاً مهنته كممثل مسرحي جيد. وتمثلت المفارقة الهزلية في دفن نيكا إلى جوار ابن إيفو الوحيد، في تأطير لعبثية تبادل الأدوار والاتهامات إزاء فاجعة الدمار. ولعبت صورة الحفيدة ماري، وهي الملمح الأنثوي الوحيد في الفيلم الذكوري، دور المحرض على التمثل بقواعد الأعراف الإنسانية المتناسبة مع مفاهيم الرجولة والشرف، في إيحاء خفي يذكر بأن الحرب اختصاص ذكوري بحت.

العدد 1105 - 01/5/2024