الأزمة السورية.. مقاربة في تحولات الوعي

من اندفع إلى الشوارع في بداية الأزمة السورية هم الناس العاديون … هاتفين ببعضٍ من حقوقهم.لكن وبشكل تراجيدي سرعان ماتحول هذا الحراك إلى فوضى وتدمير،بعد أن انقضّت على الثورة الطفلة.الثورة العذراء،وحوش الطائفية و(دراكولات) تجارة الدم،وشَهّرت محطات الإعلام الخارجية وصنعت ابطالاً، فكانوا نمورا من ورق، امتصت على حساب دماء السوريين البسطاء،الشهرة والدولار، المتعة وفنادق الخمسة نجوم.

وإذا تابعنا الكم الهائل من المعلومات التي كانت تُبث عن سوريا وتناقضها واستخدام التكنولوجيا فيها، لابد أن نعترف بأنه كان هناك تضليل هائل في المعلومات. والحقيقة أن هذا المفهوم قد حقق أهدافه بدرجة كبيرة، من خلال الاستفادة المثلى من الظروف التاريخية لتراجع الوعي النقدي للمجتمع السوري، عبر تكريس عنوان محدد اسلامي، تمت صياغته وفق تركيبات إعلامية فضفاضة تتسم بواقع ميداني معارض ذي نزعة عسكرية مسلحة، وغدت طبيعة النماذج الفكرية التي يخلقها هذا الإعلام (السلاح، الطائفية، الانعزالية، وجهة الجهاد…الخ) تنحو إلى أن تنتج فضاءً فكرياً ذا عناصر لا تتوافق مع العصر الحالي، وتمهد إلى بداية تطور ثقافي معكوس ومقولب. حيث أن الكم اللامتناهي من المعلومات المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام المرئي والصحافي حول الأزمة السورية، قد أدى إلى عدم قدرة المتلقي -أي المواطن السوري- على الإحاطة بها واستيعابها، وهذا مادفعه إلى التنميط في تحليله للخبر، ما أدى إلى انعزاله عن الفضاء النقدي المحيط به. بمعنى تآكلت قدرته على التحليل والنقد وسهُل انقياده، وفقد الشرط النقدي في المعرفة وهو أحد العناصر الأساسية في بناء الوعي.

لقد وقع المواطن السوري ضحية توهمه أن الخيارات الهائلة للمحطات التلفزيونية وخدمة الخبر العاجل وآلاف مواقع الانترنيت، أنه حر الاختيار في الاطلاع على مستجدات الحدث الإخباري في سورية. لكن حرية الاختيار في الواقع (لاتتوافر بأي معنى من المعاني دون التنوع)  (شيللر 1999)، وإن كان هذان المفهومان مختلفين فإنهما مرتبطان ارتباطاً عضوياً. فرغم العدد الهائل للمنابر الإعلامية، إلا أنها من الناحية العملية لاتشغل إلا حيزاً ضيقاً من الفضاء المعلوماتي، الحامل لثقافة الفتنة والتشرذم من جهة ومترافق من جهة أخرى مع التقليد الببغائي لأنماط الثقافة الغربية. بينما نجد في نفس الوقت أن هناك أجزاء من هذا الفضاء المعلوماتي محرم، كالموضوعات المتعلقة بتآكل روح القضية الفلسطينية أو طبيعة عقيدة الاغتيالات في العقلية الإسرائيلية، أو المقاربات النسوية ومفاهيم الجندر في الشرق، أو الترميزات الثقافية النمطية التي ظهرت في فترة الاستعمار ودور الانظمة التعليمية المحلية في تجذيرها…..وغيرها من الموضوعات الهامة الأخرى التي لاتجد لها سبيلاً للوصول إلى عقل المواطن السوري. من هذا المنطلق فإن حرية الاختيار غير موجودة لانعدام التنوع أو محدوديته، ويقع المواطن السوري ضحية اعتقاده بأن له حرية الاختيار، بينما هو في الحقيقة ضمن المجال الضيق المحدد له سلفاً من التدفق الإعلامي، فإذا كان هذا التدفق طائفياً يؤدلج المواطن عليه وتثار غرائزه ماقبل الوطنية. نحن لاننكر أن هناك فئات من الشعب السوري استطاعت أن تفرز وتختار ما تشاهده، لكن القسم الأكبر منه قد تلقف وبُرمِجَ على ما يريده الآخر بما يتطابق ومصالحه.

إذن ثمة وجهة لتطور الاحداث في سوريا تحت التأثير الاعلامي، يضعنا أمام حقيقة مايمكن أن نسميه (الاحتلال المعرفي الجديد) للمشرق، عبر تحولات في الوعي بأدوات لم تعهدها شعوب هذه المنطقة، هي الكلمة والصورة ومقومات وسائل الاتصال، مورست على الرأي العام، الذي تحول إلى جندي ميداني أمين للغرب. لذلك، يمكن القول أن المجموعات المقاتلة اغتالت الثورة الفعلية،عندما غيرت مسارها من التغيير السلمي التدريجي إلى عسكرة المجتمع، توارت على أثرها القوى الثورية المدنية إلى بعض المجموعات المدنية الصغيرة المنزوية عن الانقسامات الحادة الهائلة التي أصابت المجتمع السوري. وهذا يفسر على أرض الواقع، وبغض النظر عن انطلاقتها، لماذا كانت (الثورة) السورية فاشلة أخلاقياً قبل أن تكون فاشلة على الصُعد الأخرى، فعلى يد الألوية الإسلامية المسلحة جرى تدمير المؤسسات المدنية الحكومية والتعليمية والمراكز الصناعية، وأشيع القتل والخطف على الهوية. هذه الكتائب وهذا الأسلوب لا يختلف عن أسلوب الولايات المتحدة في تعاملها الإجرامي مع شعوب العالم الثالث منذ هيمنتها على العالم بعد الحرب العالمية الثانية.

العدد 1105 - 01/5/2024