المحاكاة بين حدّي العنف والشغف

هي لعبة الحياة إذ ترتسم بكلماتها المتقاطعة مدارات اهواء تعصف أسرارها بمتاهات القلوب.. في اشتعال حروبها، منفس جمعي واسع لتفريغ العنف الكامن في النفوس، وعبر شغف كينوناتها المتصارعة ينجلي انفتاح الأرواح الأبهى على معجزة الخلق.. ومع المخرج النرويجي Morten Tyldum) ) تغدو المزاوجة بين حدّي العنف والشغف في فيلمه (لعبة المحاكاة –The Imitation Game)، متعة بصرية جميلة تقودنا بهدوء في مغامرة الأهواء المميتة. 

تدور الأحداث في مانشستر البريطانية عام ،1951 حول مواجهة بين عبقري الرياضيات (آلان تورنغ- Benedict Cumberbatch) ومحقق جنائي فضولي، يستشعر خفايا الأسرار التي أزيحت من ملف (تورنغ) العسكري. فتتواتر المشاهد على التوازي بين الماضي والحاضر لتعيد تشكيل الصورة الإنسانية للعالم الرياضي الذي ابتكر تقنية العقل الصنعي. وبدت لعبة المحاكاة بين الرجلين متناسبة كلياً مع نظيرتها التي جرت بين (تورنغ) وقائده العسكري (دينستون) الذي ربح معاركه في الحرب العالمية الأولى، وظنّ أن بإمكانه الانتصار في زوبعة الحرب الثانية عبر الانضباط وتطبيق الالتزام المطلق بالقواعد العسكرية.. لكن فن إدارة المعارك احتاج بعد سنتين من الخسائر المتوالية إلى دهاء العقول المتقدمة، لتحلّ الشيفرة الألمانية التي مثلّت أكبر مشكلة في العالم.

 سمّي جهاز أنيغما الألماني للإشارات اللاسلكية بقبضة الموت، لأنه احتوى التفاصيل السرية لكل توجيهات الحرب، من الهجوم المفاجئ، إلى قافلات الإمداد فالغواصات الموجودة في المحيط الأطلسي. وكان اعتراض الرسالة الأولى يتم في السادسة صباحاً، مما يمنح العقول الرياضية مهلة ثمانية عشرة ساعة لفك شيفرتها قبل أن يعيد الألمان تشغيل الإعدادات عند منتصف الليل.. ومع أن كل التوجيهات كانت تطفو في الهواء، لكن احتمالات التفسير راوحت ضمن مجالات خيالية خاضعة للزمن المستحيل. مما أوجد الحاجة لمعرفة إعدادات الجهاز، وهو الباعث لتأسيس القسم المخفي في إدارة الاستخبارات العسكرية. وبالتالي غدا هذا القسم المهد الأول لولادة الذكاء الصناعي في العالم، والذي حظي آنذاك بدعم مادي مباشر من ونستون تشرشل. وهذا ما جعل الحرب رهاناً مع الوقت لا مع الألمان، لأن بريطانيا كانت فعلياً تموت من الجوع، رغم أطنان الطعام التي واظب الأمريكيون على إرسالها أسبوعياً، وأغرقها الألمان في أعماق المحيط. وهكذا ترافقت الجهود المبذولة عبثاً، مع تضحيات الجنود ومحاولاتهم المستميتة لإحداث الفرق.

رغم أن ولع الإنكليز بالمحاكمات العقلية يخفّ قليلاً في هذا الفيلم المقتبس عن قصة حقيقية، إلا  أنّ صوت الجدل الأخلاقي يعلو في عدة مواضع، وخاصة تجاه العنف والالتزام بالحسّ الوطني. فالعنف بالنسبة لرجل العلم أمر مرفوض تماماً، إذ يمتلك الحيّز الإنساني الكافي لاحتواء نداء الفراغ بشغف الإبداع. وتتطور هذه الفكرة من خلال تداعيات الحرب نفسها التي تتجاوز مسائل الشجاعة وقدسية الحياة الإنسانية إلى تعقيدات استخدام العقل الصنعي في تأمين الانتصار. فالتفاضلات والتكاملات الدموية قررت من يموت ومن يعيش، والحفاظ على مستوى مؤامرة الأكاذيب في أعلى المستويات الحكومية لمدة عامين بعد كشف تقنية الشيفرة، ضمن نتيجة الحرب النهائية. وفيما كانت ملايين الجيوش تنزف على أرض المعارك، وطائرات تسقط حمولتها، وسفن تغرق في المحيطات، بقيت الحرب عبارة عن ستة من هواة فك الشيفرة في قرية إنكليزية صغيرة. أما العامة فترك لهم استعراض الجانب الأسطوري للمعارك: الحرية مقابل الاستبداد، الديمقراطية مقابل النازية.  

في لعبة المحاكاة كان السؤال الأهم هو كيف تقترب من حل مشكلة مستحيلة.. هل تعالجها دفعة واحدة أم تقسمها إلى أجزاء صغيرة. أما الجواب فتقلص إلى مقايضة الحرية الشخصية بالشغف، والنصر باحتمالات رياضية، واتساع الحب بعقل صنعي..

العدد 1105 - 01/5/2024