التعليم المهني والتقني مفتاح التنمية الاقتصادية

تعد الموارد البشرية الأساس الذي تقوم عليه ومن أجله سياسات التنمية الاقتصادية والاجتماعية باعتبار الإنسان هو صانع التنمية وهدفها، في حقبة تتميز بحرية انتقال السلع والخدمات والأفراد وبازدياد حدة المنافسة في الأسواق الداخلية والخارجية، وهو ما يتطلب توفير القوة البشرية القادرة على التعامل مع التقنيات والمعلومات وتحقيق الميزة التنافسية للسلع والخدمات الوطنية، وذلك بتطوير التعليم الفني والمهني والتقني، لأنه المعني بتزويد العملية الإنتاجية في أي مجتمع باليد العاملة المؤهلة والمدربة في مختلف المجالات، خاصة أن العالم يشهد تفجراً معرفياً وتقنياً وما يترتب عنه من تغيرات متسارعة في أساليب العمل والإنتاج، ولكن غياب العمالة المؤهلة يؤدي إلى وقوع أضرار اقتصادية وانعدام الاستقرار السياسي وارتفاع معدلات البطالة خاصة بين الشباب، مع آثار سلبية على التماسك الاجتماعي.

فإذا كان المطلوب إنتاج سلع بمواصفات عالمية وقادرة على المنافسة مع مثيلاتها من الدول الأخرى، فكيف تستطيع ذلك إذا لم تستطع مؤسساتنا التعليمية المنافسة مع مثيلاتها من المؤسسات التعليمية في العالم؟!.

بالتعريف

التعليم المهني نمط من التعليم النظامي يتضمن الإعداد التربوي وإكساب المهارات اليدوية والمعرفة المهنية، وتقوم به مؤسسات تعليمية نظامية بمستوى الدراسة الثانوية، لغرض إعداد عمال ماهرين في مختلف الاختصاصات الصناعية والزراعية والصحية والإدارية وغيرها، بعد فترة أمدها عادة ثلاث سنوات تعقب مرحلة التعليم الأساسي.

بينما التعليم التقني أو الفني هو نمط من التعليم العالي النظامي الذي يتضمن الإعداد التربوي وإكساب المهارات والمعرفة التقنية، والذي تقوم به مؤسسات تعليمية نظامية لمدة لا تقل عن سنتين بعد مرحلة الدراسة الثانوية، لإعداد أطر فنية في مختلف الاختصاصات الصناعية والزراعية والصحية والإدارية وغيرها، وعليها تقع مسؤولية التشغيل والصيانة والخدمات.

ومن الأسباب التي أدت للاهتمام بهذا التعليم: التطورات التكنولوجية والعلمية والثورة المعلوماتية التي تجذرت في وسائل الإنتاج والخدمات، فبرزت الحاجة إلى تخريج تقنيين بمستوى متقدم يتمتعون بالكفاءة (معارف ومهارات) أعلى من  تلك التي يتصف بها خريجو المعاهد المتوسطة فأُنشئ ما يسمى بالكليات التقنية أو التكنولوجية، ومدة الدراسة فيها 4-5 سنوات بعد المرحلة الثانوية.

إيجابيات عديدة

يعد التعليم الفني والتدريب المهني الأرضية التي يمكن أن تستند عليها خطط التنمية الشاملة للوصول إلى بناء مجتمع إنتاجي متطور، كما أنه المحرك الأساسي لعجلة التنمية الاقتصادية وأحد أهم وسائل الاستقرار والسلم الاجتماعي، إذ إنه يلعب دوراً بارزاً في مكافحة الفقر والبطالة، وتحسين مستوى الدخل، بل إنه يلعب دوراً محورياً في عملية الاستقرار الاجتماعي والسياسي واستتباب الأمن، وهو ما يسهم في عدم الانزلاق إلى هاوية الإرهاب والأفكار الهدامة والمتطرفة، وذلك باستيعاب جميع مكونات المجتمع من مختلف الشرائح والفئات العمرية، عن طريق تنمية قدرات العمال وجعلهم يتقنون العمل، ومنحهم فرص عمل تسهم في زيادة دخلهم، وبالتالي تخفيض نسب البطالة، بعيداً عن الوظيفة الحكومية التي تنوء بالحمولة الزائدة من الموظفين وبالبطالة المقنعة.

ومن ناحية عائد العمل المهني والفني والتقني.. على الاقتصاد الوطني، فإنه وسيلة مؤكدة لزيادة الدخل القومي الناتج عن ارتفاع مستوى الصناعة وقدراتها، فهو يعمل على إيجاد التعدد في المهن والحرف التي تلبي متطلبات السوق،كما أنه ييسّر الحصول على السلع والخدمات في الأوقات المناسبة وبالجودة المطلوبة والأسعار المعقولة، نتيجة الوفورات الاقتصادية التي يحققها التدريب المهني في تكاليف الإنتاج، عدا العائد الاقتصادي الكلي الذي يسهم في التقدم والرقي والرفاه الاجتماعي.

ارتباط التعليم المهني والتقني بالتنمية

يتزايد اعتراف الحكومات في العالم بأهمية التعليم والتدريب في المجال التقني والمهني في تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين ومجتمعاتهم، وكذلك فعلت سورية، ولكن الاعتراف وحده بتلك الأهمية غير كاف للتمكن من التصدي للتحديات الفريدة التي تواجهها البلدان في سعيها إلى تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، فلإحداث تغيير حقيقي لابد من بذل جهود كبيرة ومتضافرة فيما يخص السياسات والتشريعات، كما ينبغي أن تكون الأطراف المعنية على استعداد للاستثمار في التعليم والتدريب في المجال التقني والمهني. وينبغي أن تكون هناك مهمة واضحة ورؤية جلية في تحديد الدور الذي يضطلع به التعليم والتدريب في المجال التقني والمهني، ضمن النظام الوطني للتعليم والتدريب، وضمن البرنامج الأوسع للتنمية الوطنية. ويمكن قياس نجاح أي نظام تعليم وتدريب في المجال التقني والمهني، بتحديد الأثر الذي يحدثه في التنمية الاجتماعية والاقتصادية للأمة. وفي نهاية المطاف، فإن الاختبارات الحقيقية للنجاح هي في توظيف الخريجين وفي التطوير الوظيفي والرفاه.

يمتاز التعليم المهني والفني والتقني بأنه تعليم ديناميكي متطور يوماً بعد يوم، وليس تعليماً جامداً، ولذا لابد أن يرتبط بخطط التنمية الوطنية الشاملة في المرحلة المقبلة لتواكب الحراك الاقتصادي، وألا يكون هناك فصل بين أنواع التعليم الثلاثة: التعليم الأساسي، والتعليم المهني والتقني، والتعليم العالي، فطالب التعليم الأساسي يجب أن يعي أهمية المعاهد التقنية والمهنية، فالتطور الاقتصادي يتطلب كوادر فنية وتقنية تغطي المشاريع المستقبلية وتوفر الكادر المتخصص.

تجارب عديدة

بنيت اقتصادات عالمية عديدة على أساس التعليم المهني والفني، ومنها جمهورية الصين الشعبية التي اعتمدت بعد الثورة الثقافية خطة عمل، بحيث تقسم التعليم إلى جزأين (التعليم الأكاديمي والتعليم المهني) وفتحت المعاهد من درجة أولى ودرجة ثانية، وارتبطت مخرجات المعاهد باحتياج خطة التنمية والاحتياج الخاص بالتوزيع للكادر على مستوى جميع المحافظات، وانتشرت المعاهد في جميع المحافظات الصناعية والمحافظات الزراعية وأقيمت هذه المعاهد بالقرب من الحقول ومواقع العمل. وخلال عشرين عاماً وضعت الصين أساساً للخدمات الفنية من خلال خريجي هذه المعاهد، وفي منتصف السبعينيات طورت الجانب الأكاديمي وحولت مجموعة من هذه المعاهد إلى كليات وجامعات. وارتبط التطور التكنولوجي بتطور العالم أولاً، الصناعي بدرجة رئيسية، ومن ثم كل الحقول المنتجة، أي أنه خلال أربعين عاماً نهضت الصين إلى مسار الأمم الصناعية المنافسة، وذلك باحترام القرار السياسي والإرادة السياسية بالعلم والتطور وتطوير المهنة تدريجياً والاعتماد على النفس وفتح المجال لكل الكوادر العلمية بالتجربة وتشجيع المواهب والطاقات.

كثير من الدول المتقدمة أولت التعليم المهني والتقني جل اهتمامها، مثل ألمانيا، إذ أصبح أحد الأسباب الرئيسة التي قادت إلى نهوضها من أنقاض الحرب العالمية الثانية، وأصبح التعليم والتدريب المهني جزءاً أساساً مكملاً للحياة، بل وينظر إليه باعتباره وسيلة رئيسة لتحسين المجتمع ورفع مستواه. إن هناك العديد من طلاب المدارس العليا في ألمانيا التي توازي الثانوية في معظم بلدان العالم يتركون المدرسة عند هذا المستوى التعليمي، وفي سن التاسعة عشرة، ليلتحقوا بمؤسسات التعليم المهني أو الاتجاه نحو تعلم بعض المهن على نظام الدراسة المزدوج. في هذه المدارس المهنية التي تعرف (بمدارس التعليم للعمل) يتم تقديم برامج أولية للإعداد المهني.

التدريب المهني في سورية

وضعت الخطط للوصول بالمنتج السوري إلى مستويات عالمية وتنافسية، ولكن دون أن ينسحب ذلك على مؤسساتنا التعليمية، على الرغم من التوسع في إنشاء المعاهد التقنية والمراكز المهنية إلا أنها لم تعد طلاباً قادرين على المنافسة مع أمثالهم من طلاب الدول الأخرى، خاصة أن العملية التعليمية أصبحت قضية اقتصادية واجتماعية معاً، لذا أصبح على المؤسسات التعليمية تلبية احتياجات المؤسسات الوطنية من القوة البشرية ذات الكفاءة المطلوبة حتى تستطيع الأخيرة أن تحقق الميزة التنافسية والنجاح، ولكن ذلك يستلزم تعزيز مفهوم العمل المهني والتقني في المجتمع من خلال برامج التوعية والتوجيه والإرشاد المهني وترسيخ أهمية دراستها والتدريب عليها في أفكار المواطنين، وسن تشريعات وقوانين منظمة لقطاع التعليم والتدريب المهني والتقني.

أيضاً ينبغي ألا تقدم السياسات التعليمية الكم على حساب الكيف، وأن توائم بين مخرجاتها واحتياجات السوق، والمطابقة المستمرة للقوى العاملة مع المتطلبات الحديثة التي يفرضها التقدم التقني والعلمي الحديث والمتطور.

ومن ناحية أخرى فإن الهوة بين احتياجات التنمية والصناعة وبين البرامج والمناهج الدراسية والتدريبية وضآلة حجم الإنفاق على التعليم المهني تعتبر أيضاً معيقات أمام تقدم الصناعة والعمل المهني، في الوقت الذي يُلزمنا الحراك الاقتصادي والمتغيرات الاقتصادية الدولية أن نولي هذا التعليم الاهتمام ونطوره، بهدف تنمية الموارد البشرية التي تشكل الرافد الهام لهذا الحراك، فدون تطوير قدرة القوى العاملة مهنياً وتقنياً لا يمكن تنفيذ الخطط الاقتصادية والاستراتيجية التنموية للبلاد والتغلب على البطالة.

ويبقى سؤال برسم المعنيين: هل تعطي الحكومة الأولوية لقضايا التعليم المهني، وتعمل على تصحيح أوضاعه وإعطائه مكانته ضمن الخطط وسياسات التشغيل؟ وهل تعمل على دعم مراكز ومؤسسات التعليم والتدريب المهني بغية سد النقص الكبير في العمالة الماهرة المؤهلة، وبما يحقق الانسجام بين الكفاءات المطلوبة والمعروض في سوق العمل؟ وهل تضع البرامج والمناهج التي تساير التطورات التكنولوجية العالمية وتلبي احتياجات سوق العمل وخطط التنمية الشاملة؟

ختاماً إن كلّ تلك المعطيات تجعل من النهوض بالتعليم الفنّي والمهني والتقني وتوسيع قاعدته وتطوير نوعيته أمراً في غاية الأهمية، وفي صدارة اهتمّامات الدولة والمجتمع، ونحن قادرون على النهوض والخروج من قمقم التخلف، فالمتعلمون مفتاح لضمان قدرتنا على المنافسة والتقدم وتحقيق الاستيعاب الاجتماعي

العدد 1107 - 22/5/2024